هل يمكن لهذا الجيل الذي شاب وشابت أفكاره أن يضيف جديدا؟.. هل يسمح الزهايمر لتلك العقول أن تضيف خصوبة أو تنجب أفكارا؟.. يجوز.. نعم يمكن, إذا شاب الغراب وباض الديك, وتغير الشرق الأوسط أو انقلب رأسا علي عقب. ليت الناس تتعلم من الأفيال؟!.. عندما يشيخ فيل, فإنه يعتزل القطيع, ويتخذ مكانا قصيا ومعه أقرانه من شيوخ الأفيال, يدركون بالفطرة أنه لم يعد لهم نفع, بل أصبحوا عبئا علي باقي القطيع, حركتهم ثقيلة, وأبصارهم كليلة, وأسماعهم عليلة.. يعتزلون في شمم وكبرياء قبل أن يدوسهم باقي القطيع, ويموتون بكرامة وإباء. من المعروف أن المجتمعات التي تمر بمراحل انتقالية, تعاني من حالة سيولة تختلط فيها الأوراق والقيم والمعاني, ومن المفترض أن القيادات الواعية من النخب تبادر في هذه الحالة كي تفرز وتنتخب وتحدد معالم الطريق الجديد.. وما تمر به مصر حاليا من اختلاط وخلط وتشتت ليس غريبا أو مخيفا باعتبار أن تلك هي سمات المرحلة الانتقالية, ولكن الغريب هو استمراء البعض لهذه الحالة, والمخيف هو اقتران انكسار جدار الخوف بانكسار آخر خطير في حصن الحياء, وانكسار أخطر في إنكار حقائق الطبيعة ونواميس الكون, بينما تشتبك النخب المعتبرة في صراع الديكة حول غنائم وفتات موائد السلطة. يري البعض أن هناك ضريبة يجب أن تدفعها أدوات النظام السابق, وأهمها الأداة الأمنية, وبشكل يشبه الإمعان في معاقبة العصا التي عذبت وليس اليد التي كانت تحمل العصا.. لا جدال في أن العديد من الممارسات الأمنية كانت تفتقد إلي أبسط معايير العدالة, وتنتهك أبسط حقوق الإنسان, إلا أن ذلك لا يعني أنه ينبغي الانقضاض علي الجهاز الأمني وتقويضه, بل يجب في ظل إطار ثوري منضبط أن تنتقل العصا من يد نظام فاسد أساء استخدامها, إلي نظام جديد يضع المعايير الدقيقة وأسلوبا للرقابة والمحاسبة تضمن ألا تستخدم هذه العصا إلا في إطار سيادة القانون.. سنة الحياة هي التغير, وشرقنا العزيز يري رأيا مخالفا, فهو يري أن التغير مخاطرة غير مأمونة العواقب, و اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش, ولذا فإن نظرة لأسطح منازل القاهرة مثلا, ثريها وفقيرها, تعطي مثالا واضحا لما أقول, فالأسطح مكتظة بأشياء لا فائدة لها, مجرد كراكيب, بقايا أثاث محطم, زجاجات مختلفة الأشكال والألوان, سلال, جرائد قديمة, والكثير من القاذورات. كراكيب نحتفظ بها رغم ثقتنا في انعدام جدواها, ولكن.. من يدري؟, فلعل هناك فائدة في هذه الزجاجة المكسورة, أو في هذه المرآة التي لم تعد تعكس شيئا سوي الصدأ... كراكيب ذات رائحة كريهة, ومع ذلك فإن الناس تصعد إلي الأسطح في ليالي الصيف كي تشم هواءها الملوث... الحكمة.. نعم.. الحكمة ضالة المؤمن.. إلا أن الحماس المتدفق مطلوب أيضا, بل وفي هذا الزمن علي وجه الخصوص, نحن في حاجة لقدر من التهور والجرأة, من اقتحام غير المألوف, واستشراف وجه جديد لحياتنا, وجه حقيقي يرفض كل هذه الأقنعة المزيفة التي نرتديها, نحتاج لبعض الغضب كي نكسر رتابة أخلاق القطيع وخضوع الخراف.. نحتاج جيلا جديدا يعتبر العلم أكثر من مجرد درجة اجتماعية أو وظيفية, وإنما أسلوب ومنهج لتغيير الحياة, نريد جيلا جديدا يرفض الخنوع لإملاءات الواقع, ينقذنا من تبلدنا, وأوهامنا التي اختطفت أعمارنا جيلا بعد جيل, ومن دوشة حملة المباخر الذين سرقوا منا أحلامنا وأيامنا ومستقبلنا... نحتاج جيلا لا يساوم في الحق, لا يتراجع عن مواجهة التحديات, يشطب سيرة الهوان, سيرتنا, ويرفض حكمتنا.. حكمة العجز. ربما هي نعمة مستترة.. الزهايمر أيضا يخفي زمنا من الهوان والانكسار, لحظة النكسة حين انفطر القلب الصبي علي حقيقة الهزيمة, وحين رفرف العلم ذو النجمة السداسية الزرقاء أمام عيوننا علي الشاطئ الآخر, بل وحين انغرس في قلوبنا حزنا وذلا مقيما.. اختفت أيضا تلك الأحلام الملونة, وتلاشت الآمال.. هي نعمة بلا جدال أن يصبح الإنسان جمادا بلا تاريخ أو مستقبل, مجرد حجر علي طريق تدوسه الأقدام. أواصل التشبث بالأمل في معجزة الكلمة ومقدرتها علي إحداث الفعل, ولكنني أعتقد أن شباب اليوم.. الرهان الذي نعيش عليه.. لا ينبغي عليه أن ينصت إلينا كثيرا, فكل نصائحنا هي نتاج تجربتنا التي تختلف في ظرفها التاريخي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي عن تجربتهم, هم أبناء القرن الواحد والعشرين, ونحن مجرد زائر مؤقت لزمن محدود, هم أصحاب المستقبل, ونحن لا نملك سوي الماضي بكل ما له وما عليه, تاريخهم أمامهم, وتاريخنا وراءنا.. نحن نعاني من الزهايمر, وهم يتمتعون بخصوبة العقل والوعي. ومثل أي فيل كهل محترم, أظن أن الوقت قد حان لاتخاذ مكان قصي, كي نرفع العبء عن الجيل الجديد, وربما يكون من المسلي والمفيد أن نجد في هذا المكان المنعزل بعض رفاق الطريق كي نتشاغل في مباراة الذاكرة, فنحاول معا أن نتذكر ماذا أفطرنا اليوم, وما هي أسماء أولادنا وأعمارهم.. نعصر الذهن سويا كي نستعيد بعض الصور الباهتة لأيامنا السعيدة, ونتبادل التفاخر بانتصارات لم يعد يتذكرها أحد.. مثل أي فيل كهل محترم يجب أن يضاف إلي الكراكيب في منطقة مخصصة لذلك, وليس علي قمة أسطح المجتمع. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق