عندما يتكلم الناس عن' الفن الحديث', يخطر لهم عادة نوع من الفن قطع صلته تماما بتقاليد الماضي, وحاول أن يصنع أشياء لم يحلم بها فنان من قبل. فبعض الناس يحبزون فكرة التقدم, ويعتقدون أن الفن يجب أن يجاري الزمن الحاضر. بينما يفضل آخرون شعار' الزمن الجميل', ويرون أن الفن الحديث كله باطل. وقد عاني فن العمارة كثيرا من تلك البلبلة, شأنه شأن الفروع الأخري من الفن, ونجح في النهاية في خلق أسلوب جديد. فالمستقبل كان يخص أولئك الذين قرروا البدء من جديد. وبدلا من الانشغال بالزخارف والطرز القديمة, رفض المعماريون الشباب الزخرفة كلية, واقترحوا النظر إلي مهمتهم نظرة جديدة تماما في ضوء الغاية منها. وقد تجلت هذه النظرة الجديدة في بدايات القرن العشرين في أنحاء عديدة من العالم, ولكنها كانت أكثر اتساقا في أمريكا منها في أي مكان آخر, لأن عرقلة أنصار التقاليد للتقدم التقني فيها كانت أخف بكثير. وكان المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت(1867-1959), أحد أعظم عباقرة العمارة الحديثة, هو أنجح معماريي هذه النظرة الجديدة. كان رايت يؤمن بمفهوم' التصميم العضوي', الذي يسعي لتجميع كل عناصر التصميم في وحدة واحدة مستمدة من المفاهيم التي وضعتها الطبيعة. فالكائنات الحية تنمو وتكرر العمليات الحيوية للجنس الذي تنتمي إليه, جيلا بعد جيل. ونموها عملية داخلية باطنية تدفعها قوة كامنة, فتتخذ الكائنات أشكالا نابعة من الداخل وليست مفروضة عليها من الخارج. ويترتب علي ذلك نواحي مميزة للكائن الحي تعطيه وحدة عضوية, تجعله كائن واحد متماسك ومتكامل, وتجعل له شخصية فردية خاصة, تميزه عن غيره من الكائنات. والتصميم العضوي يأخذ هذه المباديء ويجد لها نظيرا في العمارة, فرغم أن المباني جماد وليس لها روح, فإن الغرض من بنائها ووظيفتها وخاماتها وأسلوب إنشاءها, هي القوي التي تدفع المعماري وتوجهه, وينتج شكل المبني بالتالي نتيجة لعوامل ليس للمعماري الحرية التامة فيها, فكأنما المبني ينمو من تلك القوي. كما يلزم أن تتصف المباني بصفات التماسك والترابط والنظام, حتي تصير أجزاؤها الكثيرة المتنوعة شيئا واحدا صحيحا. ومن هذه الوحدة تكتسب معني لم يكن موجودا قبل أن تنتظم الأجزاء وتتحد, ويصبح لها صفاتها وشخصيتها المميزة. رسم رايت أفكاره من خلال عدة مصادر, فالسنوات المبكرة التي عاشها في مزرعة جده في وسكونسن ولدت فيه احتراما عميقا للطبيعة, وقد أثر عليه ذلك وجعله يستخدم الخامات الطبيعية في تصميماته. وفي مرحلة الشباب تتلمذ علي يد أعظم المعماريين الأمريكيين في ذلك الوقت, لويس هنري سوليفان, الذي رأي أن شكل المبني يجب أن يعبر عن وظيفته, وأن خامات البناء يجب أن تكون جزءا من أسلوب التصميم. وقد سار رايت علي خطي سوليفان, وقام بتطوير أسلوب يشجع علي استخدام الخامات الطبيعية ذات الملامس الغنية بدلا من التشويش الناتج عن استخدام زخارف دخيلة. لم يكن رايت ضد الزخارف, ولكن وجودها عنده كان مرتبطا بشرط أساسي هو أن تكون عضوية, بحيث تنتج من طبيعة المادة وطريقة تشغيلها, أما الزخارف الملصوقة علي الحوائط فمرفوضة لديه. كانت الكثير من تصميمات رايت الأولي لمنازل في شيكاغو وضواحيها. استطاع رايت أن يحقق فلسفته الخاصة في تلك المنازل, والتي أطلق عليها اسم منازل البراري بسبب قربها وتجانسها مع أراضي البراري المنبسطة الشاسعة في الغرب الأوسط الأمريكي. كانت' مدرسة البراري' محاولة من رايت ومجموعة من معماريي شيكاغو الشباب لخلق عمارة تناسب البيئة والحياة الأمريكية المعاصرة. تمركزت منازل رايت حول المدفأة ومنها تتشعب إلي مساحات أفقية من الفراغات المتشابكة. كان هذا جزءا من رغبته في إضفاء الإحساس بالحماية داخل المنزل, وجعل المدفأة مركزا رمزيا لحياة الأسرة. ومن خلال التصميم من الداخل إلي الخارج, كان الهيكل الخارجي للمنزل يمثل تعبيرا مباشرا عن الفراغات التي يحتويها. استحضر رايت الطبيعة إلي المنزل عن طريق أواني النباتات الخزفية الكبيرة, واستخدم في صنع المدفأة نفس الحجر أو الطوب المستخدم في الواجهات الخارجية, وترك تلك الخامات مكشوفة بدلا من وضع طبقة من الجص عليها أو تكسيتها بألواح خشبية, تحقيقا للتأثير المطلوب من إحضار طبيعة الأرض إلي مركز المنزل, وجعل المنزل جزءا طبيعيا من الأرض المقام عليها, كما لو كان من ملامح المناظر الطبيعية للبراري. لم يتوقف رايت عند الهيكل المعماري وتطوير الفراغات الداخلية فحسب, ولكنه أخذ علي عاتقه إكمال الفراغات الداخلية بكافة التجهيزات, من المقاعد والطولات وخزانات الكتب ووحدات الإضاءة والسجاد, والتي كانت جميعها امتدادا واستجابة مباشرة للتصميم المعماري ككل. كل منزل, من وجهة نظر رايت, يجب أن يعبر عن شخصية صاحبه, ويصمم بحسب عدد الغرف التي هو في حاجة إليها فقط. استبعاد الغرف الصندوقية الشكل وفتح الفراغات علي بعضها البعض. استبعاد التفاصيل والنقوش غير الضرورية. استخدام المنسوجات البسيطة غير المزخرفة. استخدام الزخارف الموجودة في طبيعة المبني نفسه, فالزخرفة بنيوية وتبدأ من فكرة المبني, مع تحديد وحدة تشكيلية واحدة لكل مبني والتقيد بها طوال ذلك المبني والاستعانة بها في تصميم كل التفاصيل المتاحة. استخدام الألوان الطبيعية, ألوان الحقول والغابات والصحاري, في وضع الخطط اللونية, واختيار درجات اللون الدافئة المريحة واستبعاد درجات اللون الباردة الكئيبة. تزويد الفراغات بالنباتات الطبيعية بقدر الإمكان, والاستفادة من الآلة إلي أقصي درجة وجعلها في خدمة الحضارة. كانت تلك المباديء هي الأساس الذي بني عليه فرانك لويد رايت أسلوبه الخاص, وبالتأكيد كانت هي المميزات البارزة في المنازل التي صممها بأسلوب' مدرسة البراري' الذي استخدمه منذ أوائل القرن العشرين وحتي منتصف العقد الثاني منه. وخلال ستة عقود, عبر رايت عن تلك المباديء بطرق مختلفة, ولكنه لم ينحرف عنها أبدا. لمزيد من مقالات د. جلال الشايب