ما يجري في ليبيا يمس جوانب مختلفة من أمن مصر, وكلنا يعلم مدي فداحة الثمن الذي دفعه المصريون وما زالوا نتيجة تهريب السلاح الليبي إلي الداخل المصري بعد سقوط نظام القذافي وسيطرة عناصر غير مسئولة علي ترسانة الاسلحة اللييبة وبيع كميات كبيرة منه وانتشاره بين أيدي المهربين والمخربين والجماعات الارهابية التي ترفع شعارات دينية, بعضها في مصر والتي توجه الجزء الأكبر منه إلي صدور أبنائنا من الجنود والضباط في سيناء وغير سيناء. لقد تخلص الليبيون من حكم القذافي بعد ثورة مجيدة وتضحيات كبيرة, وصولا إلي اسقاط نظام القذافي العنيد. وبينما كان إصرار الليبيين إبان الثورة قويا وحماسيا, فإن إصرارهم علي إعادة بناء مؤسساتهم الجديدة التي تتناسب مع تضحياتهم وطموحاتهم في دولة متماسكة تلتزم القانون والحريات يبدو أضعف بكثير, فالوهن المؤسسي هو الغالب, والانغماس في المطالب الجزئية والقبلية هو المسيطر, والسعي نحو المصالح الشخصية يفوق ارإدة التغيير الحقيقية, والمحصلة الطبيعية هي سيادة الميليشيات والجماعات المسلحة والانفلات الامني وتغييب هيبة الدولة, والهجوم علي المؤسسات ومحاصرتها ونهب أموالها وتخريب وثائقها. وما حدث مطلع الاسبوع الحالي من قيام مجموعة مسلحة من خطف رئيس الوزراء علي زيدان من مقر إقامته, تحت زعم أنه مطلوب لجهة تحقيق تابعة للداخلية, ثم الافراج عنه بعد عدة ساعات تحت جماعات مسلحة أخري وإن كان يعبر عن حالة الفوضي الأمنية وسطوة الجماعات المسلحة, فإنه يبعث برسائل عدة للداخل والخارج معا, أبرز ما فيها أن ليبيا مرشحة للاقتتال الأهلي وفقا لخلفيات سياسية وقبلية ومناطقية ودينية, ونظرا لقلة السكان واتساع المساحة الجغرافية وضعف سلطة المؤسسات الامنية علي الحدود الليبية, فمن الطبيعي أن تتحول البلاد إلي ساحات عراك وصراع مفتوحة لجنسيات عديدة, وبالتالي يصبح انقسام ليبيا أمرا واقعا. والحقيقة أن جزءا من شواهد التقسيم موجودة بالفعل, وهناك ما يشبه الاستقلال الواقعي لكل من إقليم بنغازي في الشرق وبرقة في الجنوب. وهناك جماعات مسلحة أغلقت بالفعل محطات انتاج نفطية تحت دعوي عدم استغلال طرابلس العاصمة عوائد النفط في الفساد. مما خفض انتاج ليبيا إلي ما يقرب من500 الف برميل يوميا بعد ان كان معدل الانتاج اليومي1.6 برميل يوميا, النتيجة انخفاض حاد في عوائد النفط. وهناك أيضا قوي قبلية وسياسيون يطرحون الحل في بناء نظام فيدرالي يتيح التوزيع العادل للثروات بدلا من النظام المركزي الذي يعطي لطرابلس السيطرة والهيمنة علي مقدرات البلاد النفطية والمالية والتنموية, وكأن الثورة لم تقم بعد. ويقابل هؤلاء من يدافع عن استمرار المركزية بعد تطويرها وبناء المؤسسات الجديدة التي تتناسب مع حالة ليبيا الثورة. لكن الحوار السياسي حول الفيدرالية أو استمرار المركزية لا يدور بصورة جدلية سياسية وفكرية وحسب تستهدف مصلحة البلاد العليا, بل يسعي أطرافه إلي فرض واقع علي الارض يفرض نفسه ويصعب تغييره لاحقا. فضلا عن وجود حالة ضبابية بشأن خطة المرحلة الانتقالية, خاصة ما يتعلق بكتابة الدستور الجديد, وعدم وضوح العلاقة بين المجلس الوطني المنتخب قبل عام والحكومة التي يرأسها حاليا علي زيدان, والتي تتعرض منذ شهرين لضغوط شديدة من أجل الاستقالة, أو الخضوع لمطالب القوي المسلحة بالحصول علي أموال ومزايا خارج القانون. وقد أدي غياب التراث البرلماني عن ليبيا لفترة طويلة إلي جعل الكثير من أعضاء المجلس الوطني يتصرفون باعتبارهم اصحاب مصالح شخصية أو في أحسن الأحوال أصحاب مصالح جهوية وقبلية يضعونها فوق أي اعتبار آخر. ويعد الفشل في عملية سحب السلاح من أيدي الجماعات المختلفة, أحد اكبر التحديات التي واجهت الحكومات الليبية, بما في ذلك حكومة علي زيدان الحالية. فبالرغم من المغريات التي منحت لمن يوصفون بالثوار للتخلي عن الاسلحة التي يسيطرون عليها والانخراط في مؤسسات أمنية رسمية كالجيش الليبي الموحد, والشرطة الليبية الموحدة, تبدو المحصلة محدودة. إذ يصر المسلحون علي انهم ثوار لن يتخلوا عن أسلحتهم حتي تتحقق مطالب الثورة كما يتصورونها هم, والراجح أن بناء المؤسسات المتماسكة ليس من بين هذه المطالب الثورية. فبناء المؤسسات من شأنه أن يضعف الأدوار التي يقوم بها هؤلاء, ويقلص من نفوذهم. وهنا تبدو المعضلة الكبري, إذ كيف يتم احتواء هؤلاء وكسر المخاطر التي يتضمنها استمرارهم بعيدا عن مظلة الدولة, وهنا يطرح نظريا مساران; الاول هو اقناع هؤلاء بأهمية وضرورة بالتحول من مسار السلاح الثوري إلي المسار المؤسسي والانخراط الطوعي في المؤسسات التي يتم بنائها وهو مسار مشكوك في نتائجه. والمسار الثاني وهو المواجهة والإجبار, لكن تكلفته عالية خاصة وأن القوي الأمنية المحسوبة للجيش والشرطة ليست جيدة التنظيم ويمكن اختراقها بسهولة وما زالت متأثرة بتراث التشرذم القبلي الذي كانت عليه إبان حكم القذافي البائد. وبالتالي يظل الواقع يفرض نفسه نحو فوضي ليست محمودة. وكما للاستقرار والنظام الجديد أنصاره, فإن للداعمين للفوضي أنصار كثر. فحزب العدالة والبناء الذي يمثل الذراع السياسي لجماعة الاخوان الليبية, والتي فشلت في انتخابات المجلس الوطني قبل أكثر من عام, استطاعت أن تشكل جماعة مسلحة تنتشر في مناطق مختلفة بدعم قطري كبير حسب المصادر الليبية نفسها, وتعمل علي اسقاط الحكومة وإدخال البلاد في دوامة من الفوضي والصراعات المناطقية. وكان لها دور كبير في ترويع اعضاء البرلمان الليبي ومحاصرتهم بحشود من المسلحين من أجل إصدار قانون العزل السياسي الذي يطيح بألاف الكفاءات الإدارية والسياسية بحجة أنها عملت مع النظام السابق, ومتصورة أن هذا هو الأسلوب الذي يمكنها من تفريغ الساحة السياسية من المنافسين ومن ثم السطو علي السلطة لاحقا مستغلة في ذلك الشعارات دينية, والانفتاح والحوارات التي يجريها ممثل الاخوان الليبيين الشيخ صادق الغرياني مع السفير الأمريكي في طرابلس ويليام ريبوك. تماما كما كان يحدث في مصر. ليبيا الشقيقة في محنة حقيقية, وما يجري فيها يتداخل مع مصالح مصرية عليها, ومساعدة حكومتها علي احتواء المخاطر الداخلية خاصة الجماعات المسلحة التي يساعد بعضها إخوان مصر علي تشكيل وتدريب مجموعات مسلحة تنطلق من شرق ليبيا لمواجهة الشرطة والجيش, يفترض أن يكون ذا أولوية قصوي علي جدول أعمال الحكومة المصرية وكل مؤسساتها الأمنية. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب