شكلت ثورة25 يناير نقطة تحول رئيسية في تاريخ مصر, لكن منذ تلك اللحظة تعيش البلاد مرحلة انتقالية وفصولا من التقلبات والمزج بين ممارسة الديمقراطية عبر الصناديق والحالة الثورية في الشارع ليبدو المشهد منذرا بخطر يهدد طريقها ومسيرتها في تحقيق أهداف الثورة في الحرية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية ثم استمرت نفس الحالة بعد الموجة الثورية الثانية في30 يونيو. فالأخطر في كل الأزمات التي عصفت بمصر خلال الأعوام الثلاثة الماضية هو أن جسد المجتمع أصبح معتلا نتيجة لتراكم حالة الكراهية والاستقطاب, ونفي الآخر وممارسة الديمقراطية بدون ديمقراطيين قادرين علي التعايش وإدارة الاختلافات السياسية بطريقة سلمية ووفق قواعد لعبة واضحة, وذهب كل طرف يمارس السياسة وفقا لنظرية المباراة الصفرية التي إما أن يكون الفائز بكل شيء أو الخاسر لكل شيء, فالتيارات الإسلامية راهنت علي الصندوق فقط باعتباره مصدرا للشرعية للاستحواذ علي السلطة, وتجاهلت أن مصر في مرحلة انتقالية تحتاج للتوافق والتشارك في الأعباء من أجل البناء, وفي المقابل فإن التيارات المدنية بدلا من أن تسعي إلي المنافسة علي السلطة وتقديم بدائل وبرامج عملية تجذب المواطنين إليها, راهنت علي إزاحة تلك التيارات حتي وإن كان بطريقة خارج الصندوق, وكانت المحصلة النهائية تعثر التجربة الديمقراطية وزيادة درجة الكراهية بين أبناء الوطن الواحد بل وصلت إلي حد الاقتتال في الشوارع وتبدلت أولويات المجتمع الحقيقية, حيث استدرج الجميع إلي معركة الهوية المفتعلة وتغافلوا أن مصر تحتاج إلي العمل والجهد المشترك لوضعها في مكانها اللائق بين الأمم. وبدلا من أن ينطلق المصريون من أنهم كلهم مواطنون, أيا كانت انتماءاتهم السياسية أو الدينية, ويتشاركون في مصير واحد, وأن الاختلافات ظاهرة طبيعية تشهدها كل المجتمعات وجعلتها عامل تكامل في إطار التوحد, انجرفوا إلي تحويل الاختلافات إلي صراع وتناحر. القضية الجوهرية الآن هي استعادة عافية المجتمع والإنسان المصري وتنقيته من حالة الكراهية والتناحر وإعادة التلاحم والنسيج الوطني, فيجب أن يتفق الجميع علي نبذ وإدانة ومحاربة كل صور العنف والإرهاب من أي طرف ضد الآخر ومحاكمة كل من تلطخت يداه بدماء المصريين, والديمقراطية الحقيقية تقتضي أن تكون إرادة الشعب المصري هي المرجعية في اختيار من يمثله ويحكمه علي كافة المستويات الرئاسية والبرلمانية في ظل تداول حقيقي للسلطة يكون المعيار للنجاح فيها هو شرعية الإنجاز وليس أي شرعية أخري, وتكريس دولة المؤسسات التي لا يكون رئيس الجمهورية فيها محور كل التفاعلات. استعادة عافية المجتمع تتطلب وجود أحزاب سياسية قوية وفاعلة وقادرة علي أداء دورها في تفريخ القيادات والسياسيين ونقل العمل السياسي من الشارع إلي المؤسسات, وأن يكون لديها برامج انتخابية محورها مشكلات وهموم المواطنين وترسخ مفهوم السياسة لدي الناس, واستعادة عافية المجتمع تقتضي وجود صحافة وإعلام حر ومستقل ينحاز للوطن والمواطن وليس أداة لنظام أو فصيل معين, ويساهم في استئصال الكراهية ويرسخ التسامح والوعي بين المواطنين, وينأي عن الانحياز لطرف دون الآخر, وعافية المجتمع تتطلب شرطة قوية تخدم المواطن وتتعامل بحزم مع كل خارج علي القانون أو ممارس للإرهاب أو من يضر بمصلحة البلاد وأمنها, وعافية المجتمع تتطلب وجود جيش قوي يلتف حوله الشعب ويدعمه للحفاظ علي الأمن القومي للبلاد ضد المخاطر الداخلية والخارجية ويكون الضمانة والحماية للمسار الديمقراطي خلال المرحلة الانتقالية. وبحكومة قوية يشعر معها المواطن بإنجازات ملموسة علي أرض الواقع وقبل كل ذلك دستور توافقي يعبر عن كل المصريين. استعادة عافية المجتمع تتطلب ترسيخ الديمقراطية الحقيقية وثقافتها في التسامح والتعايش مع الآخر والالتفاف حول المصلحة العليا وليس الأشخاص, ومصر لن تنهض إلا بتكاتف كل أبنائها واتفاقهم علي أولوياتها الحقيقية, فالعبث الآن أن يظل كل طرف متشبثا بمواقفه التصدامية مع الآخر, فرهان التيار الإسلامي علي عودة الرئيس المعزول يمثل انتحارا وتجاهلا لمتغيرات الواقع, ورهان التيار الحاكم علي استئصال كل التيار الإسلامي ومعاملته ككتلة واحدة إرهابية هو أيضا طريق خطأ واستمرار لحالة عدم الاستقرار والتعثر, كما أن رهان أركان نظام مبارك علي العودة والتخلص من ثوار يناير بعد شيطنتهم, وتصدر المشهد وتناسي ما ارتكبوه من فساد وإفساد لعقود هو أيضا رهان خاطئ وإطالة لحالة التناقض في المجتمع. مصر الآن تحتاج إلي مراجعة حقيقية مع الجميع, فالكل مسئول عما آلت إليه البلاد, والكل بحاجة إلي تصحيح مواقفه وتعديل من سياساته والاعتراف بأخطائه, واستعادة وحدة نسيج المجتمع المصري ينبغي أن يكون الشغل الشاغل للمصريين وقبل كل شيء, وأن تكون هناك مصالحة حقيقية وشاملة تميز بين من يمارس العنف ويضر بمصلحة البلاد ويجب محاكمته ومحاسبته وعزله, وبين كل مواطن حر من حقه أن يتبني توجها سياسيا كيفما يشاء دون اتهامه بالعمالة أو الطابور الخامس, وعندما يبدأ المصريون في نبذ الكراهية والعنف ويدركون أنهم أبناء وطن واحد ويلتفون جميعا حول مصلحة الوطن بإخلاص وتفان, هنا يمكن القول إن مصر قد استعادت عافيتها, وإنها تسير في طريقها الصحيح صوب التقدم والازدهار. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد