كانت الحيرة بالغة.. وبعد مشاهدة حديث الشيخ الشعراوي صلي خميس عبد العال العصر, ودخل يستريح قليلا, بينما انشغلت زوجته بتجهيز الغداء. لكن النوم لم يأت! نظر إلي أصابعه بأس, تآكلت الأطراف تقريبا!, وأصبحت آلام الظهر غير محتملة, وحالة زهق وملل تلاحقه في هذه الاجازة تحديدا.. وكلما تذكرالكفيل وصعوبة العمل في مصنع البلاط شعر باختناق وضيق, لا أحد يقدر الشقاء والتعب! حتي الأقارب لا يهتمون سوي بما يحمله إليهم من هدايا, لهم ولأولادهم!, ولا أحد منهم يعجبه شئ أو يرضي بشيء!! صعبت عليه نفسه... وبكي العودة.. أصبحت ثقيلة..والغربة ليست في الابتعاد عن الأهل, فالأقارب عقارب والبعد عنهم غنيمة, لكن مرارة الغربة في قسوة الكفيل والمهانات التي يخجل من سردها ويخفيها حتي عن نفسه.. وشعرخميس أن العمر يمضي وأن الراحة قد آن أوانها, ولكن كيف وهناك شقيقته التي لابد من تجهيزها, وهناك ما هو أهم أية وسارة وعبد الرحمن أولاده وفلذات قلبه الذين لا يريد لهم حياة مضنية مثل حياته, ماذا يفعلون في أيام لا ترحم ؟! استغفر خميس واستعاذ من الشيطان الرجيم بينما كانت روائح صينية البطاطس مع صوت عبد الرحمن وهو يلعب بالمسدس الجديد قد حمسته للاستمتاع بالغداء وبقطعة بطيخ ساقعة تنقلت بين أسنانه التي تؤلمه. حبس بالشاي في البلكونه وهو يستمتع بصوت خروشة الدومينو وهمهمات الناس علي المقاهي وفي الشارع, وزادت رغبته في مصر والراحة والاستقرار, لا يريد العودة للصمت والوحدة والكفيل!.. والقرار صعب! والأفكار تنغص عليه الإجازة كانت عزيزة قد بدلت ملابسها وجاءت تسبقها رائحة العطر الجديد, وشعرت بزوجها منشغلا, فبادرته بالسؤال: مالك يا أبو عبد الرحمن.. مالك يا أخويا ؟, فحكي لها وجيعته. ومصمصت شفتاها وانتبهت لأمور لم تكن تعرفها عن هذا الزوج الكادح الذي يخفي عنها مهانات الكفيل ويتماسك رغم التعب والأسي كي يصبح في البيت ثلاجة ومروحة وتليفزيون بالألوان. قطعخميس عليها حالة الشجن وسحبها من يدها ليشاهدا التليفزيون في الصالة, فجأة نظر الزوجان لبعضهما وتهللت أساريرهما وهما يسمعان صوتا رائقا هادئا:وأحل الله البيع وحرم الربا كان الصوت ساحرا كأنه قادم من مدينة الطائف التي استظل بأسوارها نبي الهدي محمد صلي الله عليه وسلم متضرعا إلي الله سبحانه وتعالي:اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي.. كان الصوت فيه خشوع أهل التقوي مشحونا بالقناعة والرضا.. والريان باب من أبواب الجنة, والهدي من عند الله, والسعد والهدي مصر والهلال كلها شركات حلال. وها هو الباب ينفتح ليرحمخميس وعزيزة وأية وعبد الرحمن وسارة من القلق, فالعرض الذي يقدمه الرجل الصالح بصوته الساحر يبدو وكأنه طاقة نور وسط ظلام دامس وحيرة قاتلة, الشركة تمنحك أرباحا سنوية تصل الي30% سويا وبارك الله فيما رزق. صلي الزوجان صلاة الاستخارة وشرب أبو عبد الرحمن زجاجة شويبس من الثلاجة, وبدت عزيزة شهية وجميلة في ملابسها البيضاء.. ولم يتبق أمامهما سوي مشوار الصباح حتي تصبح الحياة أروع ويهدأ البال وينتهي القلق وتزول الحيرة ويستمتعان بحياتهما. ثلاثة مشاهد سريعة لخميس عبدالعال.. ومشهد أخير: خميس يقترب من إحدي شركات توظيف الأموال, المكان تفوح منه روائح البخور الطيبة وتنتشر علي مكاتبه الفخمة وجوه ضاحكة مستبشرة متهللة وتتوسط جباههم علامات الورع والتقي, والحاج أو الشيخ صاحب الشركة ينهض ليستقبله بنفسه خميس سعيدا وهو يقدم تحويشة العمر راضيا دون أخذ ورقة واحدة! خميس يخرج مبتهجا ويقرر ان يتناول الغداء مع العائلة التي أصبح مستقبلها مضمونا محصنا ببركة هؤلاء الرجال الطيبين. خميس يهيل التراب علي رأسه ويفقد مهابته.. وسط مئات تجمعوا يلطمون الخدود ويشقون الجيوب أمام أبواب الشركة التي تم التحفظ عليها وعلي صاحبها. ............................................................ خميس عبدالعال.. نموذج ل188 ألف أسرة في ربوع مصر ومحافظاتها تبخرت وتناثرت أحلامهم في الثمانينيات.