تشتبك رواية أوجاع ابن آوي للكاتب الشاب أحمد مجدي همام, والصادرة عن دار ميريت, منذ سطورها الأولي مع تقنيات الإنترنت, بل تنهض علي هذه التقنيات, والوشائج والصلات بينهما ليست مجرد حلية, أو حتي حيلة فنية, إنما كل منهما ضروري للآخر. ويوما بعد يوم, يتأكد أن أعمال الكتاب الشباب الروائية الجديدة تشكل إضافة كبري للرواية في مصر, باقتحامها آفاقا جديدة, وباستخدامها تقنيات مختلفة, فهي تنطلق من تراث روائي متجدد, ولذلك تتميز الأعمال الجديدة بتنوع واختلاف لافتين, علي النحو الذي جري في أوجاع ابن آوي, وتكشف الرواية عن نفسها علي مهل, وبإيقاع يكاد يكون مضجرا في الصفحات الأولي, إلا أن الإيقاع سرعان ما يجري ويتزايد مثل نهر يفيض, ويغمر أراضي جديدة, ويكشف من ثم عما كان مختفيا من جبل الثلج, عندما يفك القاريء الشفرات الأولي. وشأن الأعمال الجيدة لا يمكن تلخيص ابن آوي, وليس مطلوبا ولا مفيدا تلخيصها, بل تفكيكها, لإعادة قراءتها واكتشافها ومحاولة استيعاب تفاصيلها. وعلي الرغم من أنها العمل الأول فيما أعلم للكاتب إلا أنها تخلو من كثير من عيوب الأعمال الأولي, فاللغة فنية تستبعد الحواشي والزوائد, أي لغة لتوصيل رسالة وليس للزهو, والبناء محكم يحيط بهذا العمل المترامي بين دمشق والقاهرة, ويقبض علي الشخصيات الرئيسية في ضفيرة واحدة متماسكة. ربما كان العنوان الفرعي للرواية عن جانب مهم, فهي بالفعل سيرة النقص والشغف الذي تتقاسمه الشخصيتان الرئيسيتان: شامي الطالب السوري الذي يدرس الطب بإحدي جامعات مدينة6 أكتوبر, وعلاء السرجاني الناقص بامتياز, فقد ولد أصم وشبه أبكم, وكما أشرت, فإن الرواية تكشف عن نفسها علي مهل, بل تسلم كل صفحة نفسها للصفحة التي تليها, فالطالبة الجامعية عفاف, ابنة أحد المشايخ المعادين للحكومة والمشتغل بالعلاج بالقرآن, تكتشف بالصدفة, وهي تفتح بريدها الإلكتروني عنوان إيميل يحمل سؤالا بدا لي غريبا, أعاود النظر في الساعة فأجد الوقت مازال مبكرا, أقرر أن أهدر بعض الوقت, افتح الإيميل وأقرأ. وهكذا تمتد أوجاع ابن آوي وتتشعب, فالشامي يرسل لعفاف التي لا يعرفها قصة علاء كاملة علي مدونة العاهة, في إشارة بالطبع لعاهة علاء الأصم الأبكم, ولا تضم المدونة قصة علاء وحده, بل قصة علاء وأسرته في خيط يمتد حتي جده لأمه, والخيط الثاني هو علاقة علاء بالشامي البالغة التعقيد, وبدت من خلالها مقدرة الكاتب علي استخدام وسائط متعددة, ويجد القاريء أربعة أشكال وأحجام للأبناط والخطوط, والخيط الثالث هو الخيط الذي ترويه عفاف عن أسرتها.أما ابن آوي, وهو علاء السرجاني, فيذكر القاريء بأولئك الممسوسين الذين أبدع ديستويفسكي علي سبيل المثال في تقديمهم, إلا أنه في رواية همام ممسوس مصري حتي النخاع, ستبقي شخصية علاء في الذاكرة طويلا, ليس فقط بسبب تعقدها المخيف حقا, بل أيضا لأن الكاتب استخدم كل الحيل الروائية في تقديمها, لنلاحظ أولا أن علاء أصم وشبه أبكم, وعلاقته بالعالم بالغة التعقيد, بأسرته وصديقه الشامي وزملائه في العمل والشات, وشهلاء الفتاة العراقية التي تعرف عليها من خلال الإنترنت, لذلك لجأ الكاتب بتوفيق شديد إلي أساليب متعددة, فهناك مثلا أوراق علاء التي سطا عليها صديقه الشامي, وهناك الأجزاء التي يرويها الشامي عن علاقته بعلاء, وهناك راو آخر, وهي عفاف التي تعيش بدورها وهم علاقة متخيلة, وفي عالم افتراضي, بعلاء القاريء, إذن أمام ثلاثة عوالم متداخلة علي الأقل, تكاد تشكل متاهة والأحداث والوقائع متوازية في أحيان, ومتداخلة في أحيان أخري, غير أن الكاتب أدار هذه المتاهة بكفاءة, وكان حريصا علي ألا يتورط عاطفيا سواء بالسلب أو الإيجاب وترك العنان لكل شخصية لتتحدث عن نفسها بضمير الأنا, وهي علي التوالي عفاف وأختها أميمة, وعلاقة الأخيرة بكتاب الإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي, فهو الخيط الوحيد غير المقنع فنيا وربما مقحم, خصوصا في الفصل الختامي, فقد بدا قليل الإحكام وخارجا عن السياق, حتي لو كان ما ترويه عفاف حلما. وفي النهاية, تتميز كتابة أحمد مجدي همام بالطموح الفني الجسور لصياغة عالم جديد, والأهم القدرة علي استخدام أدوات جديدة أيضا, وحيل فنية فاتنة علي الرغم من تعقيدها. مفكر وروائي مصري