فوق كتف رجل آخر، ترك ذراع النعش، تسلل من تحت الغطاء إلي داخله، هز جسده، يديه، قدميه، أنتقل إلي الطرف الآخر، تحسس الرأس، أقترب من أذنه هامسا: أصحي يا حاج، فلوس الكهربة، ربنا ينوَر تربتك، بناقص الإكرامية. حل الكفن، كشف عن الرأس، كان هدوء الوجه مثالياً، العطر الفائح يحمل رائحة البرودة، ارتجف، تركه برعشة من يده. كان النعش يميل به عند كل " حواداية"، إلي أن استقر، وسكن كل شيء، امتدت الأيادي ترفع الغطاء، وانطلق صوت خشن: اذكر الله، وحدوووه. أنسل سريعاً خارجاً من الناحية الأخري. عند رأس القبر، ذرف الدموع الساخنة. أمسك به الرجلان اللذان هرب منهما أثناء الجنازة، يهدئانه. " حرام عليك، أبوك مش حينفعه دلوقتي إلا دعاك له " أراد أن يقول لهما أنه ليس أبي، وكلما هم لأن يحكي لهما حكايته، تخرسه نظرة ابن الحاج الحانقة. رفع الجسد من النعش، تعالت الأصوات: لا اله إلا الله. الله أكبر. إنا لله وإنا إليه راجعون. وحدوووه. انهار ابن الحاج، تشبث بالنعش. انهار مثله، أخذه الرجلان بعيداً، رفع يديه بالدعاء، لم يكن يردد مثلهم، كان له دعاؤه الخاص: " يارب.. الفلوس.. الإيصالات " اصطف أهل الحاج لتقبل العزاء. سحبه الرجلان، أوقفاه في الصف بجانب ابن الحاج؛ الذي بدت حركته آلية، أحس به يكظم غيظا لو انفجر لأطاح بالجميع، ترك فجأة الصف وجري إلي قبر أبيه، وقف فوق رأسه وكأنه يسأله عن شئ.
قرر أن يوضح له الأمر، وهم خارجون من المدافن، لكنه وجد نفسه يفر إلي شوارع كثيرة، اخترقها عدة مرات، ثم جلس علي المقهي، طلب قهوة سادة، لم يشربها، ظل يبحلق في الفنجان، إلي أن ضاع وجهه. مر وقت وهو تائه، حتي عثر علي نفسه في السرادق، يستمع إلي القرآن. دخل حقيبته، يبحث في الإيصالات، يجرد النقود، يتأكد من المبلغ الناقص، هو بالضبط، بعد أن جنب الفروقات، المبلغ مكتوب علي ورقة، هي عادته، حتي لاينسي عند ترك فاتورة لأي مشترك. ماذا أفعل؟، لا أحتكم علي هذا المبلغ. ليه يا حاج؟ معقولة! أنا مقابلك الصبح، استغفر الله العظيم، دي عملة تعملها. المبلغ مش موجود دلوقتي، فوت آخر النهار، خد الإيصالات معاك. عيب يا حاج. صمم وترك له مثل كل مرة فواتير الكهرباء للورشة والمنزل، وعندما عاد ليحصل قيمتها منه في آخر النهار، كانت جنازة خارجة من الشارع، وسرادق يحجب الورشة المغلقة علي غير العادة. خرج من الحقيبة أثناء راحة الشيخ، بقي في صمت وحيد، قبل أن يأتي فوج آخر من المعزين، ينفخ دخان سيجارته، يرتب ما سيقوله لابن الحاج الذي يراقبه بنظرة فاتكة. " ماذا سأقول له ؟ هل يصدقني ؟ ولو صدقني، أيكون معه المبلغ؟ أكيد صرف النقود في مصاريف الجنازة، المهم يصّدق، ويعيد لي الفواتير، ولكن إذا لم يعثر عليها، لا لن تضيع، أكيد الحاج وضعها في درج المكتب، أو في الصديري الذي يلبسه تحت القفطان. تأهب لاصطياد الفرصة، بعد أن ختم الشيخ تلاوته، ووجد نفسه قناصا يمتلك الصبر، ينتظر. ويحرص هذه المرة علي أن يكون آخر واحد في الصف، وكلما جاء رجل ووقف وراءه خرج هو من الصف ليدع الرجل يتقدمه، شد علي كل يد وتمتم بكلمات الرثاء إلي أن وصل أمام ابن الحاج، ووجد وجهه متعبا ومحتقنا. امسك بيده، وأحس بالغيث قريبا وجسمه مبلل، ونظر إلي الأرض ووجدها جافة مثل حلقه، وإلي السماء وكانت خالية من السحب، هز يده وشد عليها، وتحركت شفتاه دون صوت يذكر، تردد وطال وقوفه، وجال الصمت بالمكان، حاول أن يشرح الموقف، تعثر لسانه في الكلام، سقطت يده من يد ابن الحاج، وافلت الحقيبة من تحت إبطه فتعاونت معه الأيادي في لم الإيصالات التي بعثرت علي الأرض ، اعتدل وربت علي كتف ابن الحاج، رأي وجهه مازال يظهر عليه التعب، وأن كان اختفي منه الاحتقان. ووجد نفسه يخرج بسرعة من السرادق، مدفوعا في ظهره من طابور المعزين خلفه. خارج السرادق استوقفه صوت متعب، ينبثق من جب سحيق، يتسرب في هدوء الحلم، كان لأحد الرجلين اللذين لاحقاه في الجنازة، دنا منه وأراح يده الثقيلة علي كتفه، ثم تناوب النظر بين وجهه المهموم والحقيبة التي يتأبطها في حرص، مترنما في نبرة خفيضة واهنة: البقاء لله، شكر الله سعيك، عرفت انك مش ابن الحاج، لكن واضح أنه كان غالي عليك قوي، قريبه، أنت قريبه أكيد، الظرف مش مناسب، أنا عارف، لكن اعذرني دي فلوس ناس، فلوس بضاعة وشغل، وأنا محرج أطلبهم من ابن الحاج، وأملي تكلمه أنت بالنيابة عني.