استبعاد المرشحين ومندوبيهم من حضور فرز الأصوات يؤكد النية المبيتة لتزوير انتخابات مجلس نواب السيسي    مجمع إعلام دمياط ينظم ندوة بعنوان "تنمية الأسرة المصرية.. وعي ومسؤولية"    بعد انخفاض الكيلو.. أسعار الفراخ اليوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025 في بورصة الدواجن    الرقابة المالية تتيح لشركات التأمين الاستثمار في الذهب لأول مرة في مصر    وزير الإسكان يوافق على منح تيسيرات جديدة للمستثمرين    قافلة «زاد العزة» ال71 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة    ترامب يطلب العفو عن نتنياهو رسميًا.. وهرتسوغ يرد: "اتبعوا الإجراءات"    محمود عباس: زيارتى لفرنسا ترسخ الاعتراف بدولة فلسطين وتفتح آفاقا جديدة لسلام عادل    الأهلي يطالب اتحاد الكرة بردع المتجاوزين في حق «زيزو».. واستعادة حقوقه الأدبية    كاميرا توثق جريمة سرقة.. والداخلية تضبط المتهم| فيديو    انهيار عقار بمنطقة الجمرك في الإسكندرية دون إصابات    تامر حسني يوجه رسالة ل«مي عز الدين» بعد زواجها    نقيب العاملين بالسياحة: لمس الآثار إتلاف يعاقب عليه القانون بالحبس والغرامة    ذكرى رحيل محمود عبد العزيز.. محطات وأسرار في حياة ساحر السينما المصرية    عُطل فني.. مسرح الطليعة يوجه رسالة اعتذار ل جمهور عرض «كارمن»    رئيس الوزراء يشهد مراسم توقيع مذكرة تفاهم فى الرعاية الصحية بين مصر ولاتفيا    رئيس الوزراء يتفقد معرض سمارت ديجيتال هيلث جيت    عاجل- رئيس الوزراء يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين مصر ولاتفيا لتعزيز التعاون فى مجالات الرعاية الصحية    منتخب مصر يخوض تدريباته في السادسة مساء باستاد العين استعدادا لودية أوزبكستان    اليابان تتعاون مع بريطانيا وكندا في مجالي الأمن والاقتصاد    وزير دفاع إسرائيل يغلق محطة راديو عسكرية عمرها 75 عاما.. ومجلس الصحافة يهاجمه    «عندهم حسن نية دايما».. ما الأبراج الطيبة «نقية القلب»؟    حملات تموينية موسعة بالقليوبية تكشف مخالفات جسيمة وسلعًا غير صالحة للاستهلاك    وزير التعليم: رفع الحضور في المدارس الحكومية لأعلى مستوى منذ 30 عامًا    معلومات الوزراء: أفريقيا تمتلك 30% من احتياطيات المعادن فى العالم    المشدد 15 و10 سنوات للمهتمين بقتل طفلة بالشرقية    السعودية تستخدم الدرون الذكية لرصد المخالفين لأنظمة الحج وإدارة الحشود    مصرع عامل نظافة سقط من على مقطورة فى المنوفية    «العمل»: التفتيش على 257 منشأة في القاهرة والجيزة خلال يوم    الأهلي يضع تجديد عقد ديانج في صدارة أولوياته.. والشحات يطلب تمديدًا لعامين    زيركزي يدرس 5 عروض للرحيل عن مانشستر يونايتد في يناير    وصول بعثة يد سموحة للإمارات لمواجهة الأهلى فى نهائى كأس السوبر    6 مرشحين يتأهلون لجولة الإعادة في دائرة بندر ومركز المنيا البرلمانية    فيلم «السلم والثعبان: لعب عيال» يكتسح شباك تذاكر السينما في 24 ساعة فقط    خالد سليم ينضم لأبطال مسلسل ست الحسن أمام هند صبرى فى رمضان 2026    الحبيب الجفرى: مسائل التوسل والتبرك والأضرحة ليست من الأولويات التى تشغل المسلمين    دار الإفتاء توضح حكم القتل الرحيم    ما الحكم الشرعى فى لمس عورة المريض من قِبَل زوجة أبيه.. دار الإفتاء تجيب    إطلاق قافلة زاد العزة ال71 بحمولة 8 آلاف طن مساعدات غذائية إلى غزة    جوتيريش يهنئ الشعب العراقى على إجراء الانتخابات البرلمانية    قصر العينى يحتفل بيوم السكر العالمى بخدمات طبية وتوعوية مجانية للمرضى    طريقة عمل كفتة الفراخ بخطوات بسيطة وطعم لا يقاوم (الخطوات والمقادير)    كمال شعيب: قرار سحب أرض الزمالك "باطل".. وسنستعيد حق النادي بالقانون    محافظ الفيوم يشهد الندوة التوعوية"دور الرقابة الإدارية في الوقاية من الفساد ومكافحته"    إعلان نتائج انتخابات غرفة تطوير واستصلاح الأراضي الصحراوية للدورة 2025-2029    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    اليوم.. عزاء المطرب الشعبي إسماعيل الليثي    وزير الخارجية يعلن انعقاد المنتدى الاقتصادي المصري – التركي خلال 2026    تعرف على أكبر نتائج مباريات كأس العالم للناشئين بعد ختام دور المجموعات    «وزير التنعليم»: بناء نحو 150 ألف فصل خلال السنوات ال10 الماضية    المصرية جمانا نجم الدين تحصد لقب أفضل قنصل لعام 2025 في المملكة المتحدة    رئيس هيئة الرقابة المالية يبحث مع الأكاديمية الوطنية للتدريب تطوير كفاءات القطاع غير المصرفي    بيزيرا: لم أقصد الإساءة لأحد.. وأعتذر عن الخطأ غير المقصود    استقرار سعر الريال السعودي في بداية تعاملات اليوم 12 نوفمبر 2025    مباحث الجيزة تكتشف جريمة بشعة داخل شقة مهجورة فى بولاق الدكرور    محافظ الغربية: رفع درجة الاستعداد القصوى لانتخابات مجلس النواب 2025    دعمًا لمرشحيه بمجلس النواب.. «مستقبل وطن» ينظم مؤتمرًا جماهيريًا بدمياط    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجيد طوبيا .. وهواجس جائزة الدولة:
ليه لما فزت بالتقديرية قالوا عني
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 07 - 2014


هل صحيح أن قيمة الجائزة أصبحت 200 ألف جنيه؟
بينما كنت أتصفح المواقع الإلكترونية لمعرفة أسماء الفائزين بجوائز الدولة هذا العام وكيف مضت جولات التصويت بعد إعلان الدكتور سعيد توفيق، الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة قراره المفاجئ بالتخلي عن منصبه في حضور الدكتور جابر عصفور، وزير الثقافة الجديد، فوجئت بأكثر من موقع يذكر أن "الحائز علي جائزة الدولة التقديرية في الآداب هو الكاتب الراحل نجيب طوبيا".
وسألت نفسي: من هو "نجيب طوبيا" هذا الذي يحصل علي جائزة الدولة في الآداب بعد رحيله، وأنا لا أعلم عنه شيئًا!
وما أن تأكدت من أن الفائز هو الاديب الكبير "مجيد طوبيا"، مد الله في عمره، حتي بدأت أدعو لتصويب هذا الخطأ، وأكتب علي حسابي علي الفيس بوك مطالبًا من ارتكب هذه الجريمة أن يعتذر، ويصوب هذا الخطأ الفادح.
وبعد ساعات تلقيت رسالة من الأديب فتحي سليمان، صاحب رواية "فاتن حمامة" يقول فيها: "ليتك تتصل بالأستاذ مجيد غدًا عند منتصف النهار لأنه يريد التحدث إليك".
وكلمته فكان أول سؤال: "مين اللي كتب إني مت؟ وليه عمل كده؟"، فرددت عليه: "لا أعرفه، لكنني عالجت المشكلة.. وعمومًا يوم السبت المقبل، 28 يونيو، سأمر عليك لنحتفل معًا بفوزك بالجائزة".
سألتني زوجتي: "لماذا اخترت السبت.. إنه يوم عيد ميلادك، وقد رتبت أن نحتفل به معًا؟"، فكان ردي عليها: "أعلم، وقد فكرت في أن نأخذ تورتة عيد ميلادي ونذهب بها إلي الأستاذ مجيد لنحتفل معه بالمناسبتين".
في الموعد تمامًا، ظهر هذا اليوم القائظ، وقفنا تحت شرفة شقته المفتوحة دائمًا علي فضاء الكون، المرحبة بأي عابر سبيل، ناديناه وطلبنا فتح باب العمارة، وعلي الفور عبر من الشرفة إلي الغرفة الأثيرة لديه ووصل إلي الصالة المظلمة ومنها إلي باب العمارة الحديدي ليفتحه ويسمح لنا بالدخول، دونما عبارات الترحيب التقليدية، فقد كان شاغله أن التقني الذي جاء لإصلاح جهاز التليفزيون المهدي له من الدكتور صابر عرب، وزير الثقافة السابق، انصرف وترك له الجهاز يستقبل قناة واحدة فقط هي قناة القرآن الكريم.
وما أن أدركنا حجم هذا القلق الذي يجتاحه لفقده السيطرة علي تليفزيونه حتي طمأناه؛ وبدأت زوجتي علي الفور في استعادة القنوات التي يفضلها. وكان يصر علي أن تكون القناة الأولي في مقدمتها، وعندما رأي أحد برامج الطهي علق: "لأ.. لأ.. مش ده الشيف الأصلي"، فضحكنا وأدركنا أنه صاحب
مزاج، وله برامجه الأثيرة.
لكنه لم يكد يهنأ طويلًا بتليفزيونه فقد انقطع التيار الكهربائي وتوقفت المروحة الصغيرة التي لا يمتلك سواها عن الدوران، وبدأنا نتصبب عرقًا.
في هذه الأثناء نادي بعض أبناء الجيران عليه من الشارع، فهرع إلي الشرفة لنكتشف أنهم اعتادوا أن يطلبوا منه أن يخرج من شقته ويفتح لهم باب العمارة! وهو يفعل ذلك بصدر رحب رغم تكرر هذا النداء أكثر من مرة!
بعد ذلك ينادي عليه صوت صديقه الأديب فتحي سليمان ليفتح له باب العمارة هو الآخر. فأسارع إلي استقباله وتحيته علي الجهود التي يقوم بها لرعاية الأستاذ مجيد مما أدي إلي اختلاف حالته النفسية عن أول مرة زرته فيها يصحبة زوجتي والدكتور عبدالله سرور، أقرب أصدقائي إليه والذي يرجع إليه الفضل في تنبيهنا إلي تردي الحالة النفسية لهذا الأديب الكبير الذي انقطعت أخباره عن الدنيا سنوات طويلة، مما دفعني إلي أن أعود من هذه الزيارة لأكتب هذا الكلام المؤلم:
"هل يذكر أحدنا آخر مرة التقي فيها بالروائي والقاص الكبير مجيد طوبيا؟
هل يعرف أدباء جيل الستينيات، الذي ينتمي إليه مجيد، ما إذا كان لا يزال علي قيد الحياة أم فارقها؟ وماذا يفعل ناشروه بكتبه؟ ومن الذي يحصل علي مستحقاته عن النسخ التي تباع منها؟ وهل يهتم أحد بإصدار طبعات جديدة من رواياته الشهيرة التي ترجمت بعضها إلي لغات أجنبية، أو كانت محوراً لرسائل جامعية هنا في مصر أو في الكثير من الجامعات الأوروبية: "دوائر عدم الإمكان"، و"الهؤلاء"، و"غرفة المصادفة الأرضية"، و"الوليف"، و"حنان"، و"ريم تصبغ شعرها"، و"عذراء الغروب"، و"الحادثة التي جرت"، وثلاثية "تغريبة بني حتحوت"، أو مجموعاته القصصية: "فوستوك يصل إلي القمر"، و"خمس جرائد لم تقرأ"، و"الأيام التالية"؟.
وأين ذهب الأصدقاء الذين كانوا يلتقون به يومياً علي مقاهي مصر الجديدة وكازينوهاتها التي اختفي بعضها من الوجود أو استحال إلي كيانات انفتاحية جديدة؟!
ظلت هذه الأسئلة تؤرقني طويلاً، إلي أن اهتديت إلي صديق مشترك يقيم في الإسكندرية: الناقد الدكتور عبدالله سرور، فأكد لي أن "مجيد" لا يزال علي قيد الحياة، وأنه يحضر من الإسكندرية
خصيصًا ليطمئن عليه.
فرجوته أن يستأذنه في أن أتوجه لزيارته، ولم يعترض، وذهبنا إليه.. تركنا السيارة بالقرب من باب الكلية الحربية وكان الشارع الذي يقيم فيه أمام ناظرينا، وبعد أن قطعنا أقل من مائة متر وصلنا إلي البيت الموجود علي الجانب الأيمن من الشارع، الذي تحتل شقته واجهة الطابق الأرضي منه، ونادي عليه صديقنا، فرد علي الفور، وفتح الباب الحديدي، وهل علينا وقد طال شعره ولحيته وغزاهما الشيب، وانحني ظهره، وضعف بدنه، وتردت صحته ونفسه، ولفتني إرتعاش يديه واضطراب لسانه، وإن لم يمنع كل هذا من ترحيبه بنا بشكل طفولي يشوبه الانكسار، وإغروراق عينيه بالدموع أحيانًا، أغلقنا نحن باب الشقة وعبرنا الردهة التي واجهتنا فيها لوحة بريشته ودخلنا إلي غرفته الأثيرة؛ جلس هو علي مقعد تعلوه براءة حصوله علي جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1979، وقد جعل من منضدة خشبية صغيرة مكتبًا تتناثر عليه مخطوطات كتابات سبق نشر معظمها، وفي مواجهته جهاز تليفزيون عتيق صامت دائمًا، وقد أشار إلي أنه لا يفتحه، وكذا جهاز الكمبيوتر البدائي المجاور له لا يتمكن مجيد من التعامل معه بمفرده، وقد كان "شيش البلكونة" المطلة علي الشارع مواربًا وربما وافق علي أن يشرعه قليلًا بسبب زيارتنا له.
لم يُخف علينا أنه لم يذق الطعام منذ أيام، ومع ذلك أصر علي أن يحتسي ثلاثة أكواب من القهوة دون أن يكمل سندوتش طعمية واحدا!.
سألناه عن معاش اتحاد الكتاب الخاص به، وذكر أنه من أعضائه المؤسسين، وحدد أن رقمه 33 بين الأعضاء الذين زادوا الآن علي ألفي عضو، وعندما طلبت منه رقم تليفونه وانتهي من إملائه عليّ ، علق الدكتور عبدالله سرور بهدوء قائلاً: "لا يا مجيد.. ده مش رقم تليفونك"، وأملي عليّ رقمًا مختلفًا تمامًا، طلبته من تليفوني المحمول، فإذا بجرس تليفونه القديم الملاصق ليده اليسري يرن، وعندئذ أدركت أن "مجيد" لم تعد به حاجة لمعرفة رقم هاتف بيته!.
وعندما سألته عن أصدقائه رد في تلقائية: لا أعرف أخبارًا عن أحد، فقط سمعت- لا أدري ممن- أن عبدالرحمن أبو عوف مات، وقبله الدكتور أحمد كمال زكي الذي كنت أتردد معه علي المقهي، وذكر في
ثنايا كلامه أنه لم يعد يمتلك القدرة علي الخروج من باب شقته بمفرده، وعندما تجرأ وفعل سقط في الطريق وحمله أحد المارة وأعاده إلي بيته، فلم يكررها.
هذا يا سادة ما وصل إليه حال فارس من أهم فرسان جيل الستينيات.. آلا يستأهل مجيد طوبيا أن يتوجه الدكتور شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة، ومحمد سلماوي، رئيس اتحاد الكتاب، لزيارته والوقوف علي حالته، وإدخال بعض الطمأنينة إلي نفسه المنكسرة، قبل أن يقررا ماذا سيفعلان لإنقاذه؟ وفي طريق عودتنا سألت الدكتور عبدالله سرور: ما الذي قربك من مجيد طوبيا؟ فرد قائلاً: روايته "تغريبة بني حتحوت" التي صدرت عام 1988 عن دار الشروق بالقاهرة في 280 صفحة من القطع المتوسط، تابعتها عندما نشرت مسلسلة في "الأهرام" عام 1987

وقد أسعدني كثيرًا تناقل ما كتبته عن طوبيا علي شبكة الإنترنت في لمح البصر، وتداولها والتعليق عليها علي صفحات "الفيس بوك"، وعبر رسائل البريد الإلكتروني، وكانت في مقدمتها هذه الرسالة التي تكتسب قيمة خاصة لأنها ممهورة باسم الناقد الكبير الدكتور صبري حافظ الذي حملنّي أمانة إبلاغ مجيد طوبيا تحياته وتقديره لمنجزه الإبداعي، وكتب في رسالته:
"مجيد طوبيا هو أحد أبرز كتاب جيل الستينيات ومن رواد هذه الموجة الأدبية الجديدة التي غيرت وجه الكتابة القصصية والروائية في مصر. وأنه علي عكس الكثيرين الذين تاجروا بإنجازاتهم المحدودة، وتقلبوا بها بين المنابر، ووظفوها في خدمة المؤسسة السياسية الفاسدة في مصر وفي غير مصر، قد حافظ علي استقلاله الثقافي وعلي كرامته الشخصية بحياد ونزاهة. ولا يصح بأي حال من الأحوال وقد عاني من الجحود في عصور التردي والفساد، أن يعاني من الإهمال بعد الثورة.

توجهت، من جديد، إلي بيت مجيد طوبيا، مصطحبًا الدكتور علي الشامي، طبيب الأمراض النفسية بوزارة الصحة، الذي رحب بمعاينة الحالة علي الطبيعة، وقدمته إلي مجيد من خلال صفته الأخري كمبدع يكتب القصة والرواية، وقلت له إنه يود أن يهديه كتابه الأول "زيجوت"، فكان هذا مدخلًا مناسبًا فتح أمامنا بابًا لحوار كشف للطبيب تفاصيل الحالة، حتي أنه أطلعني علي تشخيصه ونحن نقطع الطريق من البيت في مصر الجديدة إلي مبني التليفزيون في ماسبيرو، حيث تحمست المعدة حنان فكري لتبني القضية التي أثرتها، فدعتنا عبر شاشة "النيل الثقافية" لنطلع الرأي العام علي خطورة حالة مجيد، فإذا بالدكتورة زينب العسال، عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب، تتصل بي فور انتهاء الحلقة معبرة عن إنزعاجها الشديد لما وصل إليه مجيد، معربة عن رغبتها في تبني قضيته في مجلس إدارة الاتحاد.وبعد ساعات، تسلمت التقرير الطبي الذي انتهي منه الدكتور علي الشامي، وفوراً رفعته إلي وزير الثقافة فالموقف لم يعد يحتمل أي تأجيل. وبعدها بعدة أيام اتصل بي الدكتور عبدالرشيد محمودي معربًا عن أسفه الشديد للحالة التي وصل إليها مجيد، مؤكدًا أنها قابلة للتحسن إذا ما صدقت النوايا للإعتناء به، وأشار إلي أن أول خطوة يجب أن تُتخذ هي محاولة الاهتمام بملبسه ونظافته الشخصية ثم إدماجه في مكان لائق لرعايته النفسية والبدنية.

بصعوبة بالغة وافق مجيد علي أن نصحبه إلي مستشفي القوات المسلحة بالمعادي، بعد أن أصر علي عدم مغادرة شقته مؤكدًا أنه لا يحتاج إلي علاج من أحد، ولولا مساعدة جارته الدكتورة هناء صادق حنا لي ولإبراهيم شلبي، مسئول العلاقات العامة بمكتب وزير الثقافة، ما تمكنا من إقناعه بتغيير ملابسه للخروج معنا إلي المستشفي لتوقيع الكشف الطبي عليه حتي تبدأ أولي مراحل العلاج.
وقد لاحظت أن مزاجه تغير إلي الأفضل بعد أن تحركت بنا سيارة وزارة الثقافة وبدأت تأخذ طريقها من مصر الجديدة إلي المعادي عبر طرق لم يألفها مجيد منذ سنوات، وعندما اقتربنا من سور مجري العيون ذكّرنا، والفخر يبدو علي ملامحه، بالحملة التي خاضها منذ سنين للحفاظ علي هذا الأثر التاريخي، وأخذ يتحدث عن إهتمام الإيطاليين بأصغر حجر في بلادهم، وكيف أنهم يدرسون علاقة الإضاءة وبُعد مصدر الضوء عن الأثر حتي لا تؤثر الحرارة في مسلة أو تمثال أو واجهة مبني قديم، وهنا قال لي: "تذكر طبعًا أنني زرت إيطاليا العديد من المرات قبل أن يقرأ الناس هناك ترجمات
رواياتي، فقد ربطتني علاقة حب بأستاذة إيطالية من أصل سكندري هي "فريال بارازي"، زرت إيطاليا من أجلها عدة مرات، وهي التي تولت ترجمة رواياتي إلي الإيطالية، ومن خلالها تعرفت علي خصوصية هذا الشعب الذي يعشق الحياة ويشبهنا في جوانب كثيرة".
ويستطرد قائلاً: "فرنسا هي الأخري من الدول التي زرتها كثيراً ولي فيها ذكريات وصداقات"، وهنا أذكره بلقاء علي أحد مقاهي "مونمارتر" بينه وبين الزميل الكاتب جمال الشرقاوي الذي اتصل بي منذ أيام ليطمئن علي صحة مجيد مؤكدًا نبل هذه الحملة التي خضتها لتنبيه الساحة الثقافية في مصر إلي أهمية الاعتناء بهذا الأديب الكبير الذي كادت صفحة النسيان أن تطويه وهو حي بيننا.
وعندما نقترب من الفسطاط يحرص السائق علي تنبيه مجيد إلي أنه يمكن أن يري متحف الحضارة الجديد عن يمينه.
وأجدها فرصة لاستعادة الأيام الجميلة في حياته فأسأله عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وإلي من منهما يميل؟ فيرد بتلقائية شديدة: "كنت صديقًا لكليهما.. توفيق الحكيم الذي كان لا يستقبل ضيوفه إلا يوم الخميس كان يسمح لي بزيارته في أي وقت، وكثيرًا ما كان يقرأ علي مقالاته قبل أن يدفع بها إلي المطبعة"، وهنا أسأله عن رأيه في الحكيم، وهل يري، مع من يرون، أن مسرحه أقرب إلي القراءة منه إلي التمثيل لأنه مسرح ذهني يفتقر إلي الحركة؟ فيرد: "توفيق الحكيم كاتب عظيم، و(عودة الروح) هي أصل الرواية المصرية. أما نجيب محفوظ فكنت من أول من ارتبطوا به وتنقلت معه بين العديد من مقاهي القاهرة التي لفظتنا بسبب مطاردة البصاصين من كتبة التقارير ورجال المباحث"، وهنا أعلق: "من أطلقت عليهم أنت (الهؤلاء)"، فيبتسم ويضيف: "تصور واحد مش فاكر اسمه قال لي بعد أن أصدرت رواية (الهؤلاء) يا أستاذ.. اسم الإشارة لا يعرف!، فكان ردي: من اليوم، اعلم أنه سيعرف".
وتشجعني ردود مجيد وتفاعله كي أسأله عن أديبين آخرين اقترب منهما بحكم عمله في المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب والعلوم الإجتماعية: عبدالرحمن الشرقاوي، ويوسف السباعي، فيقول: "لم أكن قريبًا من الشرقاوي الذي كان سكرتيرًا عامًا لهذا المجلس ولكنني عرفت أن يوسف السباعي طلب منه أن يعتبرني في تفرغ مفتوح حتي أبدع كما يحلو لي".
وأعود فأسأله: "ويوسف السباعي.. هل تري أنه أديب بحق؟"، فيرد منفعلًا: "يوسف السباعي أديب وابن أديب، وهو صاحب إنتاج روائي ضخم وأنا أحب كتابته، وهو صاحب أفضال علي كثير من أبناء جيلي ممن ساندهم ويسر لهم سبل الحياة".
وأعود فأسأله: "من الذي علمك كتابة السيناريو؟"،
فيسرح طويلاً ثم يقول: "بلا شك ..صلاح أبو سيف فقد درّس لي في معهد السينما وفي معهد السيناريو أيضًا، وتعلمت منه الكثير".
ونصل إلي وجهتنا، وأُدرك أننا نوشك علي دخول ثكنة عسكرية فأتوقف عن طرح الأسئلة، وأتأهب لمرافقة المريض.

رحلة طويلة قطعتها مع مجيد المبدع والإنسان عبر مشواري الصحفي الممتد استعدتها بمجرد أن زرته وانضم إلينا جاره الأديب فتحي سليمان، الذي يؤرخ في سرده لأحوال حي مصر الجديدة الذي نزح إليه هو ومجيد منذ زمن.
أخذنا نقطع التورتة، بينما مجيد يسألني: صحيح إن الجائزة بتاعتي قيمتها 200 ألف جنيه، فأقول له: "نعم"
فيعود للسؤال: وأنا أول واحد من جيلي يأخذها، فأرد قائلًا: "لأ.. أخذها قبلك كتير.
فيسأل: لكنهم ما أخدوش 200 ألف.
فأصمت، ثم أرد: "ربما".
ينتبه إلي التورتة، ويطلب مني ألا أنسي نصيب "يونس"، و"رضا"، فأطمئنه بأنه في الحفظ والصون.
فجأة يتركنا ويخرج إلي البلكونة ليعود قائلًا: القطط لازم يكون لها نصيب.
ويبدأ جدل بينه وبين "منة" زوجتي مؤداه أن القطط لا تأكل التورتة، لكن هيهات، يأخذ بنفسه القطعة ويقدمها لها، وعندما لا تأكلها يذهب إلي المطبخ ويدعو قطط الشارع إلي ما تيسر له من طعام صنعته "رضا" التي سيحدثنا فتحي باستفاضة عن أهميتها في حياة مجيد، كما سيكشف سر ولعه بيونس.
ويقرأ فتحي علينا نصًا كتبه بعنوان:
"مجيد طوبيا..ألف ماشي جنب الحيط شايل عصفور علي شكل همزة"
في ألمانيا تتسابق دور الحضانة للتعاقد مع كبار السن للعمل مشرفين وموجهين للأطفال صغار السن.. كان هذا الخبر أول ماتبادر لذهني عندما رأيت "يونس" ابن غفير العمارة وهو يقفز عاليًا حتي تطول قامتة القصيرة كف "عم الأستاذ مجيد" كما يناديه.
ويتدلّي جسد العجوز صاحب السنوات السبع والسبعين ليضع في الكف الصغير "جنيه" معدن، ويسأله: "إنت دلوقتي في سنة كام يا يونس؟".
"سنه أولي يا عم الأستاذ مجيد، وطلعت الأول". ويتدخل " أحمد" الأخ الأكبر ليونس قائلاً في سخرية: "الأول من الآخر!"
ويظل عم الأستاذ يضحك من الطرفة الصبيانية طوال جلستنا المسائية، عندما أمر عليه وأنا في طريقي لوسط البلد.
مجيد الوحيد في عالمه البسيط يستأنس بيونس. فهو القريب لقلبه عندما يطالعه جالسًا بجوار والدته وهي تقرأ في مصحفها، ويونس يردد وراءها بلعثمته الطريفة.
ومن مكانه الدائم بجوار شرفة "مجيد" في الطابق الأول، يتبادل "مجيد" التحية والسلام مع سكان العمارة، الذين يحبونه ويعرفون قدره جيدًا وقرأوا الكثير من أعماله، وإن كانوا جميعهم يتفقون علي أن روايته "أبناء الصمت" هي أحب الأعمال إلي قلوبهم.
يظل العازب الأبدي يلح علي أن أتناول ما جادت به "الست رضا" الجدة الطيبة التي تمر عليه كل يوم جمعة، وتعتني بكل ما يخصه وتعتبره والدًا لها. ويقول إن دعوة عمته "أجيه"، قدس الله روحها، لاقت سماءً مفتوحة عندما قالت: "إلهي يحبب فيك خلقه يا مجيد".
كان الكتاب خير جليس له حتي جاء الوزير السابق الدكتور محمد صابر عرب لزيارة مجيد في شقته المتواضعة وعزلته الاختيارية، جاء ومعه من يعرف قيمة الأدب والأدباء.
بضع وريقات علي الطاولة لفت نظر الوزير كونها بدايات لرواية جديدة شرع مجيد في التخطيط لها ورسم شخوصها. لكن يوم وشهر وسنة ذيلّوا النص التمهيدي كشفوا عن ماحاول مجيد أن يخفيه عنهم؛ العين اليسري لمجيد تعاني من ألم حاد.
ودار حوار حول لحية مجيد وكيف جعلت شكله يشبه هيمنجواي وأبسن.
وفي صباح اليوم التالي اقترب " يونس" من الشباك المفتوح ليستطلع سر الصوت العالي القادم من تلفزيون مجيد الجديد الذي أهداه الوزير إليه، وإلي جواره كان جهاز أشبه بالراديو، وتابع بعينيه سلك أسود طالت قامتة لتصل الي سطح العمارة. دبدب صاحب السنوات السبع بقدميه فرحًا بتغيير الأنوار المتلاحق في غرفة الأستاذ العجوز، وصاح: "اليوم أكملت عامي السابع، هات "جنيه" بقي أشتري حلاوة".
سبعون عامًا بين ضفتي النهر: يونس علي شرق الحياة، ومجيد علي المعدية المتجهة إلي غرب النيل .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.