تعرفت علي أعمال كارلوس أونيتي (مونتيفيديو 9091-4991) في بدايات التسعينيات، مدفوعاً بالأساطير التي كانت تدور حول هذا الكاتب. كان زملائي في الكلية يحكون أنه زاهد، يرفض حضور المؤتمرات، ويعيش في سريره في صحبة زجاجة الويسكي. كان غريب الطباع علي أية حال، فلم يكن ذلك متوقعاً في أحد كتّاب أمريكا اللاتينية المشهورين.. كان أغلب زملائه يعيشون في رائحة الحشود، يشاركون في الأحداث بصفتهم ساسة أكثر منهم فنانون. بارجس يوسا رشح نفسه لرئاسة بيرو، ماركيز اجتمع مع فيدل كاسترو وبيل كلينتون، وكورتاثر كان يدافع عن الثورة النيكاراجوية.. أما كارلوس فوينتس فكان هو المكسيك. وعلي العكس من ذلك كان أونيتي الأكبر من كل هؤلاء، يعيش في سريره بصحبة زجاجة الويسكي. تحققت بعد ذلك أن أونيتي قد عاني من الاضطهاد السياسي، وكان اضطهاداً أسود، عبثياً وكوميدياً، فقد اعتقلوه لأنه كان عضواً في لجنة تحكيم مسابقة للقصة القصيرة. كانت القصة الفائزة تعتمد علي مشاهد جنسية تتضمن إشارات للمثلية الجنسية لأحد الأفراد العسكريين بالحكومة، وكان العقاب هو اعتقال المؤلف ولجنة التحكيم لأنهم أساءوا لكرامة القوات المسلحة خلال الاستجواب، سأل ضابط محكمة التفتيش أونيتي: - ما هو اتجاهك السياسي؟ - ليس لي اتجاه سياسي. - لمن أدليت بصوتك الانتخابي؟ - لم أدل. - ولمن أدليت قبل ذلك؟ - لم أدل. - إذن أنت من الفوضويين! فأجابه أونيتي شاعراً بالملل أكثر من الخوف: - فلتسجل أنني من الفوضويين.. أيمكنني أن أدخن؟ بعد عدة أسابيع- طبقاً لما يحكونه- نقلوا أونيتي إلي مستشفي الأمراض النفسية نتيجة للأعراض التي ظهرت عليه نتاج غياب الكحول والمهدئات، وهكذا انتهت مأثرته الأكثر بطولية. راجعت مؤخراً أعمال كارلوس أونيتي لمشاركتي في لقاء حول أعماله نظمته دار لاكاسا دي أميريكا بالتعاون مع الأمانة العامة لأمريكا اللاتينية وجمعية سان بينيتو، وبينما كنت أقرأ أدركت أن هذه الحادثة كان من الممكن أن تحدث لأي من شخصياته، ربما لجامع الجثث الذي كان حلمه الذهبي أن يدير بيت دعارة متوسط الحال، أو لأبطال رواية الترسانة الذين يتظارهون بأنهم يعيشون من تجارتهم بينما كانوا يبيعون المعدات كخردة. أو لأبطال أرض لا تنتمي إلي أحد، الذين يحلمون بالهروب لجزيرة ليس لها وجود. كل هؤلاء ليس منهم من يواجه الواقع ببطولة، مثل شخصيات حرب نهاية العالم. ليس منهم شخصية مهمة في تاريخ أمريكا اللاتينية مثل الجنرال في متاهته. فشخصيات أونيتي أناس مثل أغلبنا، يتحتم عليهم أن يواجهوا العالم متوسط الحال. وربما يكونون شخصيات فكاهية لو تخلت عن المزاج المتواضع. ربما لهذا السبب كان أونيتي أقل كُتّاب أمريكا اللاتينية شهرة، فآخر المدافعين عن الوجودية لم يكن يحتقر السياسة فقط، بل كان يشمئز من النجاح والشهرة، وكان يرفض كل ما له صلة بالظهور العام. ونتيجة لذلك لم يواجه الديكتاتوريات الشيطانية ولا المحاربين الشجعان. ربما لأنه كان يعيش في أورجواي- أكثر دول المنطقة ازدهاراً وسلاماً ومساواة- كان يعلم أنه حتي في أكثر الدول ديمقراطية من الممكن ألا تكون سعيداً. لكن لهذا أيضاً، وبشكل لاإرادي، صار أونيتي أكثر كتّاب أمريكا اللاتينية حداثة، فحتي عقد الثمانينيات، خلال ازدهار الثورة الكوبية، سادت روايات الواقعية السحرية بقيادة ماركيز علي الكتابات الأخري، فامتلأت بنساء لهن ذيل خنزير يطرن من النوافذ، وبعد سقوط سور برلين، الواقعية الحضرية والعنيفة لأدب أمريكا اللاتينية كانت مضبوعة بماريو بارجس يوسا، حيث تدافع شخصياته عن نفسها ضد الطغاة. لكن بعد عشرين عاماً، لا الطرف الأول ولا الثاني للمشهد الأيديولوجي أنتج ردود أفعال كبيرة، الثورة الكوبية لم تحسن حياة الناس، وبعد عقدين بدون ديكتاتوريات في المنطقة لم يتضاءل عدد الفقراء. سكان أمريكا اللاتينية لازالوا يصوتون بشكل ديمقراطي لحكام ديكتاتوريين: تشافيز، أوريبي، بري. والمشهد لا يقتصر علي أمريكا اللاتينية وحدها، فخلال العقد الأخير، باسم الديمقراطية يتم غزو العراق ويسمح بديكتاتوريات في ليبيا ومصر وكازاخستان. هذا الجو المليء بخيبة الأمل انعكس في الأدب اللاتيني والأوروبي، واثنان من أبرز كتّابه في السنوات الأخيرة هما بولانيو وهوليبيك، وكلاهما ينتمي للجيل الذي رأي انهيار الأحلام الكبري للرئيس الليندي ومايو 86، ومرارتهما تذكرنا بكارلوس أونيتي، فالشعراء المغتالون للكاتب الشيلي والموظفون المدمنون للعادة السرية للكاتب الفرنسي، المنفيون المنتحرون للأول، والسياح الجنسيون للثاني، من الممكن أن يظهروا في أي رواية لروائي أوروجواي الذي مات دون أن يتعرف عليهم. لا يبدو أن أونيتي قد أثر في هؤلاء المؤلفين. فليس هو من يستطيع أن تخلد أعماله عبر الزمن، علي العكس كان الزمن هو من تغير لتروي أعماله، وعلي طول القرن العشرين انقسم الكوكب إلي حقيقتين. وفي القرن الواحد والعشرين نعرف كما كان يعرف أونيتي من قبل أن الحقيقتين أكذوبة. بلاشك، من المثير للإعجاب أن تكون العضو الأقدم والأحدث في الوقت نفسه بنادي الرواية الأمريكية اللاتينية الأكثر إبهاراً، ولكن الأهم من ذلك أن تحقق ذلك وأنت في سريرك، وسلاحك الوحيد زجاجة الويسكي. (كاتب المقال: سانتياجو رونكاليولو- ليما 5791- نشر مؤخراً رواية ذكريات سيدة)