استدعي خبر رحيلها ما خيل الي انه قد انطوي او بهتت ملامحه. نادية شحاتة هارون ماتت وهي تقف ضاحكة في مكتبها، ما كان يمكن الا أن تموت ضاحكة، أو ليست هي بعضا من أيامنا الضاحكة تلك التي مرقت، نادية أيضاً مرقت. قفز الي المخيلة توأمها الروحي أمد الله في عمرها، الشقيقه الكبري الأقرب الي عمري، ماجدة شحاتة هارون -الرئيسة الحالية لطائفة اليهود المصريين- بشعرها الذهبي المنسدل فوق الكتفين او الذي كان أيامها منسدلا، ونظارتها. التي كانت جزءا من شخصيتها ومازالت، ماجدة كنا اكثر من ماجدة.. وأكثر من نادية.. لكن أيا منا لم تكن لتأبه اي الآيات ترتل وهي تدعو الله الا تضبطنا »مدام كامس«، مشرفتنا اللدود لحظات شقاوتنا البرئيه، ولا كيف تتوجه لله لحظة الاحتياج للمدد لما تضبط مدام كامس كراساتنا السرية حيث تختبيء صورعبدالحليم حافظ او الفرنسي »إدامو« وريقات الورد المجفف لزهور اختزنت رسائل وصل وشيك كنا اكثر من »نادية« وأكثر من »ماجدة« رب واحد وثلاثة أديان. أيامها علي الأقل في تلك الدائره المتحصنة بالتلقائية والحبلي بالامنيات في فناء ليسيه الحرية باب اللوق لم نحمل في دواخلنا من علامات غير هوية الحياة.. رحت استعيد السطور مره تلو الأخري، متاملة صورة ترافق الخبر، خبر رحيل زميله المدرسه نادية شحاته هارون التي ما استشعرت غير انها وأختها ماجدة بعض من أيامنا الوردية تسمرت عيناي..، كنت أفتش عما ألفته، عن صورتنا معا في فناء المدرسه، ليسيه الحرية بباب اللوق...وقع تقافزنا ،أصداء الضحكات،ألوان زي المدرسه الواقعة ما بين الوردي المطعم بالمربعات البيضاء والرمادي الخافت وعلي جانبها احرف ثلاثه جلية L H C. تشير الي اسم المدرسة وتستخدمها في هتافات تشجيع فرقنا الكروية، همهمات أسرارنا الصغيرة، مغامرات اول العمر المضفرة بالأحلام، مؤامراتنا للفرار مما تصورناه حصار أمنيات، رائحة فطائر الباتيه القادمه بنار فرن »لاباس«. مؤامراتنا البريئة لنستبق جرس الفسحة، فنلحق بالكرواسان المشبع باحمرار ولمعة الطزاجة التي لا يضاهيها الا طزاجة أعمارنا. في الطريق الي المعبد اليهودي بشارع عدلي. للمشاركة وحضور شعائر الجنازة كنت افكر كيف انني لم أتعرف علي ديانه الشقيقتين نادية -رحمها الله-وماجدة أطال الله عمرها -الا بعد سنوات. وإنني تعلمت اول ما تعلمت الصلاة في حضانة مدرسة الراهبات، وإنني مدينه لفترة مدرسة الراهبات بكثير مما احفظه من القران وان صديقة الطفولة أوقدت لي شمعه تضرع للعذراء لما هدني المرض، بدا استرجاعي قادما من بعيد .. مشوبا بشجن.. شجن الفقد.. فقد زميله صبا وفقد زمن. قلت لسائق التاكسي شارع عدلي وأضفت المعبد اليهودي ، قبل ناصية التقاطع المؤدي لاحت عربات الشرطة وصفوف العساكر المدججين لم يبد السائق انزعاجا كالعادة لكنه وعلي غير العاده -أيضاً- أبدي تعاطفا لما طلبت منه ان ينزلني امام المعبد مباشره متعلله بقدم متورمة والحقيقة انني وحيدة واستشعر الغربة غربتي عن الشوارع والناس وأتون المشاعر الضارب وسريان شريط الصور كأنه بالأمس القريب والذي سرعان ما سوف يربكني حضوره الذي يكاد يتجاوز زمني الحي..متاريس الحديد المؤدية الي الداخل والداخل الذي لا تدخله الا بعد المرور عبر بوابة أمن. ذاكرتي التي مستها حيوية مفاجئة جعلتها تتخطي العقود وتلتقط من بين الزحام وجوه الالفه.. روز جلست الي جواري في الاتوبيس الذي اقلنا الي مقابر الطائفة اليهودية بالبساتين، حياه في المقعد الخلفي..، اما لطيفه فقد جاورتني وقوفا في المعبد الذي اكتظت قاعاتاه وفاضت بالمعزين.. وقبلهن كانت ماجدة واقفة علي باب القاعة الجانبية للمعبد حيث رقد الجثمان في انتظار ان يقيم الحاخام الفرنسي شعائر الجنازة .. بعد إصرار حاد الا يكون الحاخام إسرائيليا.. كانت تتلقي عزاء حقيقيا صادقا من زملاء وزميلات صبا وطفولة وشباب.. وما بعدهم..عمر يتجسد. بعد مساحة التراتيل وفي نهاية الصلاة أمسكت ماجدة بالميكروفون وكأنها تتشبث مقاومة حتي اخر نفس.. رافضه الاقتلاع هنا ولدت وهنا وارت التراب الأب المصري المحامي الرافض للصهيونية شحاته هارون وشقيقتيها. وبصوت حمل عذابا دفينا راحت تنادي »هذا تراثك يا محمد..هذا تراثك يا فاطمة.. هذا تراثك يا مينا« كأنها تستنجد الا يفرطوا فيما عاشت وأسرتها للحفاظ عليه فتراثها اليهودي جزء من تراث مصر، يملكه مينا ومحمد كما تملك هي مع مينا ومحمد تراث مصر القبطي والإسلامي... فيم اختلفت ماجدة عن ماجدة عن ماجدة.. الم اقل اننا كنا اكثر من ماجدة وأكثر من نادية نلعب ونحلم ونحب ونغني نفس الأحلام بنفس الارتام.. حين كنا بالمريله الوردي المطعمة بالمربعات الرمادية الخافتة لم نكن في وعينا الأخضر نحس ان ماجدة غير ماجدة غير ماجدة، ربما في الكوامن كانت نتوءات لكني لم أكن اعرف ..... فقط لما صرت صحفية وأصبحت ماجدة تأنيا شحاته هارون مهندسه. برز النتوء.. لكنني لما عرفت مصر.. تعمقت معرفتي بماجدة هارون اكثر وأكثر. أتي صوتها المرتعش المعبأ بالوجع توصي بمصر كلها ولا أقول بتراث مصر اليهودي (وسط جموع أقباط ومسلمين من بينهم نفر محدود من المصريين اليهود- فكل العدد المتبقي من يهود مصر لا يتجاوز العشرين.) أيام المريلة الوردية المطعمة بالمربعات الرمادية الخافتة كانت ماجدة هارون جزاء من فضاء انتمي اليه وأحبه.. بل لعلني بعد كل الطواف و الترحال لم اجدني ولا تاقت روحي لموضع بقدر ما تتوق لهذا الفضاء وماجداته ونادياته وغيرهن لما وقفنا عند القبر الذي سوف يواري نادية كان زوجها المخرج احمد قاسم علي بعد خطوات مني ..بينما اتكأت بذراعي علي الاستاذه امينه شفيق.. مالت علي مفسره جزءاً مما يدور، أرصده تشابها لا يخفي مع كثير اعرفه لكن ما توقفت عنده طويلا كان تلك الإشاره المصرية الخالصة عندما مرر احدهم مقصا لأقرب الناس الي الراحلة ليقتطع من القميص او الثوب »قصقوصة« اشاره رمزية لشق الهدوم حزنا علي المتوفاة وهوماكان حتي زمن قريب في ثري مصر وارت ماجدة شحاته هارون شقيقتها زميله ايام المريلة الورديه نادية شحاته هارون في نفس الموضع الذي احتضن من قبل المصري اليهودي شحاتة هارون، وفي امتداد لنفس الثري وعلي نفس الأرض واريت يوما ابي محمود وأمي وأخي محمد. المجد لأيام المريلة الورديه المطعمة بالمربعات الرمادية. المجد لمصر الواحده متنوعة الماجدات والناديات