ثمة روح قوية تدفع الفنان كريم عبد الملاك لإنتاج أعماله الفنية بكل تلك الرهافة والرومانسية .. خلطة سحرية تجمع بين استكشاف الذات والكون في رحلة مليئة بالتساؤلات النابعة من رغبة في إدراك العالم بالتأمل.. وإيمان عميق بقيمة المحبة .. وبين الانتماء للجذور حيث كل تلك الحضارات والمشاهدات التي تشربها، وكذلك امتنان لوالده الفنان ابراهيم عبد الملاك الذي يحرص أن يهدي عملا لروحه في معارضه الأخيرة وكذلك لوالدته التي تركت أثرا كبيرا في تكوينه، فخرجت أعماله أيضا لتدافع عن المرأة وقضاياها وحريتها. ولأنه فتح أبواب الروح خرجت معارضه الثلاثة الأخيرة تحمل أسماء مشحونة بالطاقة وبالمعاني الخفية فكانت »روح» .. »حرة».. »سكن» .. تماما مثل أعماله التي اعتمد فيها علي الشفافيات والمزج بين الإنسان والمكان والطبيعة، منحازا لدرجات لونية تتأرجح بين درجات البني والأصفر والسيبيا ولمسات من الأخضر إضافة إلي تلك الملامس المتنوعة التي تسكن المسطح ، كل تلك العوامل التي تعطي الإحساس بالقدم وتثير مشاعر النوستالجيا. ويجمع بين تلك المعارض الثلاثة الأخيرة عدة روابط أولها ثلاثية حروف عناوينها التي تترك أثرا عميقا في نفس المتلقي، واعتماده علي المرأة كبطل أساسي يحتوي سائر المعاني الأخري ففي »روح» نجد كريم يتناول قضيتي المباني التراثية المهملة بالتوازي مع عقول النساء المهمشة في مجتمعاتنا معتمدا علي المزج بين بورتريهاته النسائية والمباني التراثية التي تعاني من الإهمال مثل قصر البارون، وقصر السكاكيني الذي تحول لمبني تابع لوزارة الصحة .. وهنا لا ينفصل الفنان عن فكرة الروح إذ يجد أن لكل مكان ومبني روح تخصه حتي أننا نقول إن ثمة أماكن روحها حلوة .. والعكس فإن بعضها مقبض .. تماما كأرواح البشر التي قد تتآلف أو تتنافر. أما في معرضه »حرة» فينبت للمرأة أجنحة كي تحلق، ليس بجسدها فحسب بل كذلك بعقلها .. فهو مؤمن تماما بقضايا المرأة وبحريتها ، وفي هذا المعرض بدأ كريم اختبار مسطحات بديلة إضافة إلي التوال، إذ وظف النحت بالسلك المعدني وكذلك قدم عملا من الخشب إذ تحررت الأجنحة خارج الإطار التقليدي. وقد استمر كريم في تقديم تلك المنحوتات بعد ذلك إلا أن التصوير هو السائد حتي الآن.. وإذا كان كريم قد حرر الأجنحة خارج الإطار بالإضافة ، فإنه في معرضه الأخير » سكن» قد استعان بالحذف ليعبر عن قوة الاحتضان وحالة الامتزاج بين المحبين. ففي معرض »سكن» الذي استضافه جاليري سفر خان بالزمالك يبحث الفنان في قيمة المحبة وأهميتها وقوة الاحتضان، فكلمة »سكن» تبدأ - كما يذكر- من سكن روح الله بداخلنا، إنها نفحة الروح التي نعيش بها حتي تغادر الجسد، مرورا بسكن الرجل للمرأة أو العكس وعلاقة الأم بأبنائها، كل تلك المعاني انعكست في كلمة المعرض المكثفة التي قال فيها »خلقنا لنحب .. لتسكننا روح الله فتزرع المحبة فينا .. هنيئا لمن بحثوا في ثنايا أرواحهم .. ولموسوا اليقين الساكن فيها .. وطوبي لمن امتلأت قلوبهم بطهرها ، منحت عطائها .. فسكن السلام فيها». وثمة معاني عميقة تأتي في التفاصيل التي يطرحها كريم في مسطحه، ففي واحدة من اللوحات نلمح الهدهد وتدفق النيل، فالنيل الذي كان بمثابة سكن للمصري القديم ليس جغرافيا فحسب وإنما روحيا كذلك ، أما الهدهد فهو رمز للبصيرة، إذ أنه من المعروف عن هذا الطائر قدرته علي معرفة مكان الدود تحت الأرض، وهنا اختاره المصريون القدماء رمزا للحكمة. كذلك فإن تلك اللوحة التي أهداها لروح والده، هي بمثابة تذكار عائلي يحمل حوار بين أطرافه الثلاثة، إذ استعان كريم بواحدة من لوحات والده المرسومة بالأبيض والأسود التي تعبر في مضمونها عن الحضن ذلك الذي ظهر بتنويعات مختلفة في معرض »سكن» ليؤكد عن حاجة البشر لذلك الاحتواء الذي يبعث في نفوسهم السكينة، إضافة لذلك اختار أن يضع تلك الرسومات علي ظهر فتاته التي رسمها في إشارة لكون الأم هي العمود الفقري للأسرة .. ويبدو أثر والدته وذكريات الطفولة العالقة التي تثير بداخله حنين في أكثر من تفصيلة ، إذا استعان أيضا بتفاصيل من الباترون الذي اعتادت مجلة البوردة أن تنشره، إذ كانت والدته تقوم بحياكة ملابسه وهو طفل صغير مستعينة بالباترونات التي تنشرها مجلة البوردة .. وهكذا فإن كل عمل من أعمال كريم عبد الملاك يحمل حكاية ما، إلا أن الرابط الأساسي بينها هو طاقة المحبة وغلبة الروح وتحررها في الملكوت متجاوزة حدود الإطار، وربما لهذا السبب اختار أن يقدم كثير من بطلاته مغمضات الأعين إذ يقول علي الرغم من أن العين بوابة الروح، إلا أن أجمل الأشياء وأقواها نقوم بها ونحن مغمضي الأعين .. كأن نحتضن أحد بقوة .. أو حتي حين نحلم.