صنع الله إبراهيم لأني أعانى من متاعب مع الذاكرة لهذا كنت فى حاجة لإعادة قراءة البيان الصحفى الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة الصادر حول فاعليات الدورة السابعة لملتقى القاهرة الدولى للإبداع الروائى العربى، لم أكن لأفعل هذا لولا أن استوقفتنى الجملة التالية »وفاز بدورتها الثانية المصرى صنع الله إبراهيم«، كان السؤال الأول الذى خطر على ذهنى هل يتحدث البيان عن ملتقى آخر غير الذى أعرف، هل حدث أن فاز صنع الله إبراهيم بالجائزة كما يتحدث البيان؟ يومها، 22 أكتوبر 2003، كنت ضمن الحضور، صعد صنع الله إبراهيم إلى المسرح أمامى وألقى كلمة حامية تحدث فيها عما تتعرض له الأمة العربية من عربدة أمريكية والتواطؤ المزرى للحكومات العربية فى كل مكان، وعن اجتياح إسرائيل لما تبقى من الأراضى الفلسطينية، وعن سياسات الحكومة فى مجالات الثقافة والتعليم وغيرها، مؤكدًا على موقف الكاتب الذى لا يمكنه أن يغمض عينيه عن هذا كله ما دعاه لرفض الجائزة لإيمانه بأنها «صادرة من حكومة لا تملك مصداقية منحها»، أذكر التصفيق والهتاف الحماسى،الوجوم الذى علا وجوه لجنة التحكيم، الكلمة السريعة لفاروق حسنى، وزير الثقافة وقتها، والتى سعى بها لتخفيف تبعات الموقف «فى الواقع كلمات الفائز وسام على صدر النظام الذى يسمح بهذا القدر من الحرية، واقدم اعتذارى للجنة الموقرة عن المجهود الذى بذلوه فى مشروع لا طائل منه». ليست ذاكراتى أنا إذًا التى تعانى المشكلات لكنها ذاكرة وزارة الثقافة! بعد خمسة عشر عامًا على الواقعة يزيف المجلس الأعلى للثقافة ما جرى بتلك الجملة التى تقرر، على خلاف ما جرى، حصول صنع الله على الجائزة، يتم توزيع البيان على المواقع الصحفية التى تعيد نشره كما هو بلا تدقيق، يتم تناقله وتمرير المعلومة بلا سؤال. السؤال المهم هنا كيف حدث هذا، هل كتب موظف ما داخل المجلس الأعلى للثقافة البيان ثم عرضه على سعيد المصرى الأمين العام للمجلس الذى وقع عليه بالموافقة من دون أن يلحظ الخطأ، أم أنه لم يعرض عليه من الأساس؟ هل عرضوا هذا التزييف على وزيرة الثقافة ووافقت عليه أم لم يجدوا ضرورة لهذا؟ ومع أننا نطرحها لكن هذه الأسئلة بالفعل غير مهمة، لأنه طالما خرج البيان وتم نشره إذًا فالوزارة، وليس المجلس فقط، وافقت ضمنًا على مضمونه وعليه تتحمل مسؤوليته، وهو ما يجعلنا نفترض أنها، أى الوزارة، تريد من الجمهور تصديق هذه الحقيقة، نسيان ما جرى قبل خمسة عشر عامًا واستبدال المشهد القديم بآخر، نتخيل من خلاله ابتسامات متبادلة بين صنع الله إبراهيم وفاروق حسنى وأعضاء لجنة التحكيم، أجواء احتفالية تناسب الفعل «فاز». الواقع أنى فكرت كثيرًا فى المأزق التاريخى الذى كان على الوزارة أن تعالجه بينما تستعد لإقامة دورة جديدة للملتقى دعت إليها ما يقرب من 250 روائيًا وناقدًا من مصر والدول العربية، ما الذى ستكتبه حول جائزة الدورة الثانية، دعنا نتخيل بعض الجمل، مثلًا لو أردنا الدقة القانونية سنقول: «منحت لجنة التحكيم الجائزة للروائى صنع الله إبراهيم الذى رفضها». أما لو صغنا ما حدث من وجهة نظر فاروق حسنى سنكون جملة كالتالى: «أوهم صنع الله إبراهيم لجنة التحكيم بالموافقة ثم خدع الجميع ورفض الجائزة على المسرح فى مشهد استعراضى»، بالتأكيد لن تنقل وزارة الثقافة فى عهدها الحالى كلمات مثل «باحث شهرة» أو أنه كان «شو» من كاتب «غير معروف على المستوى الشعبى»، والتى وصف بها حسنى صنع الله فى كتابه الصادر حديثًا «فاروق حسنى يتذكر.. زمن من الثقافة»، هذه فى النهاية ليست معركة إيناس عبد الدايم وزيرة الثقافة الحالية، لهذا ربما كان من الأوفق أن نجد صياغة ثالثة وسط بين القانونية وبين وجهة نظر الوزارة فى 2003، كنت لاقترح على سبيل المثال: «وفى دورتها الثانية رفض صنع الله إبراهيم استلام الجائزة التى فاز بها لأسباب سياسية». هناك بالتأكيد صياغات عديدة يمكن بها تقديم ما حدث فى 2003 لجمهور 2019 بخلاف التزييف، هذا إن كان لدى المجلس الأعلى للثقافة الرغبة فى هذا، لكن يبدو أن المسؤولين فيه، أو بالأحرى المسؤول الأول، د. سعيد المصرى أمينه العام، خاف من تبعات البحث عن جملة تتحرى وتتناسب مع الواقع، ربما يرى، من وجهة نظره، أن ما جرى منذ خمسة عشر عام لا يليق، لا يمكننا فى هذا المقام التفرقة بين آراء الأمين العام الشخصية ورأيه كمسؤول ثقافى، هل لديه موقف شخصى مما فعله صنع الله إبراهيم؟ أم أنه وافق على تلك الصيغة أو حتى صاغها بنفسه لأنه يرى فيها الأفضل لهيبة وزارة الثقافة؟ ألا يدرك د. المصرى أن رفض صنع الله للجائزة تم فى عهد الرئيس الأسبق مبارك، وأنه لو افترضنا أنه يرى فيما حدث مساسًا بالدولة فإنها كانت دولة مبارك. بحثت طويلًا فى تاريخ د. سعيد المصرى عالم الاجتماع، ربما أهتدى إلى ما يفسر لى تلك الصياغة لموقف صنع الله إبرهيم، لأنه لا يعقل أن تكون مجرد خطأ، ليست سهوًا، ولم أجد سوى أنه فى العام 2003 كان يعمل بالتدريس فى دولة الإمارات، لم أجد ما يشير إلى موقف خاص من صنع الله، لكن وبينما أبحث شدنى لقاء أجرى معه على إحدى القنوات يتحدث فيه عن قيمة الصدق، حيث يشرح من خلال رؤيته كأستاذ لعلم الاجتماع المفارقة التى يمر بها الإنسان فى حياته بين مثل عليا يتطلع إليها وواقع عملى ضاغط يفرض عليه إيجاد حلول عملية سريعة، وأنه دومًا فإن المثل العليا لا يمكن أن تتطابق مع الواقع بأى حال من الأحوال. ويواصل مؤكدًا أن الصدق جانب مهم من المثل العليا وتدعو إليه كل الشرائع السماوية والأديان والفلسفات كى تكون حياة الإنسان أفضل، لكن هل يمكننا أن نتصور ولو بشكل نظرى أن حياة إنسان على وجه الأرض تتطابق فيها الأقوال مع الأفعال؟ السؤال للدكتور المصرى، وإجابته: استحالة طبعا، إذا تطابقت حياة الناس مع المثل العليا انتهت الحياة الإنسانية، ثم يفيض فى شرح دور التعليم والدين. دعنا نطبق هذه النظرية على الحالة التى نحن بصددها هنا، المثل العليا والصدق يفرضان أن يذكر البيان حقيقة ما حدث عام 2003، صنع الله إبراهيم رفض جائزة ملتقى الرواية العربية، والواقع العملى يقول أنه من الصعب إعادة سرد ما حدث، لن نبالغ ونتبنى رأى فاروق حسنى ونهاجم صنع الله، ولكن فى الوقت نفسه لن نقول أنه رفضها، سنقول أنه فاز بها كى لا تنتهى الحياة الإنسانية، لأنه من يهتم بمعلومة مثل هذه، ألا ترى.. الكل نقل المعلومة من خلال البيان ومضى الأمر، وفى الدورات التالية من يدرى ربما نجد صورة لصنع الله يرفع الجائزة عاليًا أمام الجمهور فرحًا بها.