قبل تسعة وأربعين عاما وثلاثة أيام، وتحديدا صباح يوم الأربعاء 8 أبريل عام 1970 دكت طائرات حربية تابعة لجيش العدو الصهيوني مدرسة »بحر البقر» الابتدائية المشتركة، القابعة علي تخوم قرية وادعة فقيرة تحمل الاسم نفسه تتبع مركز الحسينية محافظة الشرقية.. الجريمة الهمجية لم تستغرق سوي أقل من ثلاث دقائق بيد أنها كانت كافية لتسوية مباني المدرسة بالأرض وإلقاء تلاميذها الصغار في جحيم رهيب ابتلع أرواح 30 طفلا اختلطت دماؤهم الطاهرة وأشلاؤهم الطرية بالكراريس والطوب والحجارة، وخشب »الدكة» و»السبورة»، هذا فضلا عن نحو 40 جريحا. ويحكي أنه في ساعة متأخرة من مساء يوم تلك الجريمة الرهيبة، فوجئ موظفو الاستقبال في مبني الإذاعة والتليفزيون في قلب القاهرة بالشاعر والفنان العبقري الراحل صلاح جاهين يدخل المبني ويسألهم بنبرة تنز بالمرار والحزن، إن كان الأستاذ محمد عروق (رئيس إذاعة صوت العرب آنذاك) مازال موجودا في مكتبه، فرد أحدهم: لا والله يا أستاذ صلاح، الأستاذ عروق غادر قبل قليل. طيب معلش، أنا ح انتظره هنا لغاية لما ييجي بالسلامة. هكذا قال جاهين وهو يشير بيده إلي عتبة سلم المبني خارج البوابة، ولم ينتظر وإنما أدار فورا ظهره لمحدثه وذهب إلي حيث أشار وجلس فعلا علي العتبة الموازية لرصيف الشارع.. وما أن استوي قاعدا حتي أخرج من جيبه بضع وريقات أخذ يقلبها في يديه (كأنه يرتبها) ثم راح يقرأ فيها بصوت خفيض لكنه معجون بدموعه التي كانت في هذه اللحظة بدأت تنهمر بغزارة وتغمر ملامح وجهه الطيب. هرول موظفو الاستقبال جميعا إلي حيث يقعد الفنان العظيم، وظلوا يناشدونه ويلحون عليه هاتفين: تعال تفضل في الداخل يا أستاذ صلاح، ليس معقولا أن تجلس هكذا.. غير أن صلاح جاهين ظل علي عناده لا يتحرك، فقط بقي يردد: لا معلش شكرا، هنا كويس قوي.. أنا قاعد مرتاح آه لغاية لما ييجي الأستاذ عروق براحته!! كان يقول هذه الكلمات ثم يعود إلي أوراقه وبكائه، عندئذ لم يجد كبير الموظفين مفرا من الاتصال بالمرحوم محمد عروق في بيته وإبلاغه بالحكاية التي اكتملت علي النحو التالي: وصل عروق إلي المبني بعد أقل من ربع ساعة، فإذا به يري جاهين علي الرصيف يتلو علي جمع غفير من الموظفين أنشودته الرائعة »الدرس انتهي لِموُا الكراريس».. كان يهتف منهكا بأبيات الأنشودة والكل يسمع ويبكي مثله، فلما لمح صديقه رئيس الإذاعة هب واقفا واحتضنه، وظلا يبكيان (مع باقي الرهط الحزين) لحظات طالت قبل أن يدخلا المبني ويصعدا معا إلي مكتب عروق، ولم يضيع هذا الأخير وقتا كثيرا قبل أن يجري اتصالا هاتفيا بالموسيقار الخالد الشيخ سيد مكاوي ثم بالفنانة الرائعة شادية، عارضا عليهما تلحين وغناء أنشودة »الدرس انتهي» تحية لأرواح الزهرات الشهيدة في بحر البقر.. وافق كلاهما فورا ومن دون تردد، وبعد دقائق وصلا مبني الإذاعة والتليفزيون وانضما لجاهين، وظل الثلاثة يعملون كل ساعات الليل (من دون أجر ولا أي مقابل) وسمع الناس في الصباح صوت شادية وهي تشدو: الدرس انتهي لِموُا الكراريس / بالدم اللي علي ورقهم سال في قصر الأممالمتحدة / مسابقة لرسوم الأطفال أيه رأيك في البقع الحمرا / يا ضمير العالم يا عزيزي دي لطفلة مصرية سمرا / كانت من أشطر تلاميذي دمها راسم زهرة / راسم وجه مؤامرة / راسم خلق جبارة راسم نار.. راسم عار / ع الصهيونية والاستعمار والدنيا اللي عليهم صابرة / وساكتة علي فعل الأباليس الدرس انتهي.. لِموُا الكراريس ....... (ملحوظة: الحكاية آنفة الذكر موثقة بشهادة مصدرين أولهما الأستاذ محمد عروق رحمه الله، والمصدر الثاني الصديقة الرائعة السفيرة إيناس سيد مكاوي).