فوزية مهران في مكتبها بالمنزل في أواخر عام 1955، فكّرت السيدة العظيمة فاطمة اليوسف، صاحبة مجلة »روز اليوسف»،أن تنشئ مجلة عصرية، تستطيع أن تستوعب الطاقات الكبيرة والإبداعية للشباب الذي كان يأمل في مساحات واسعة من التعبير، توفرت في تلك السنوات الفتية بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، وكان بالفعل قد تكوّن خطاب إبداعي وفكري وصحفي في السنوات الثلاث التي أعقبت الثورة، وكان هذا الخطاب يبحث عن منابر »شبه» مستقلة، ورغم أن مجلة »روز اليوسف» كانت تعمل علي قدم وساق لاستيعاب ذلك الشاب، وتلك الطاقات المتفجرة، ومن يتصفح المجلة في ذلك العام، 1955، سيجد بالفعل أن بضعة أسماء توافرت في المجلة، منها مصطفي محمود في الكتابة الفكرية والأدبية، وصلاح جاهين في الكاريكاتير، وطبعا أحمد بهاء الدين الذي كان زعيم الشباب في الصحافة منذ عام 1952، وكان قد نشر كتابيه المهمين »فاروق ملكا»،بتقديم إحسان عبد القدوس، وكتب »أيام بلا تاريخ» عن السلسلة التي أنشأتها المجلة في ذلك الوقت. ولأن بهاء الدين كان بمثابة »عرّاب الشباب»، وأبرز الكتّاب الجدد، وقد أصبحت أقدامه راسخة في المجال الفكري والصحفي والسياسي، وقع عليه الاختيار لاختيار كتيبة من الكتّاب والمبدعين وفناني الكاريكاتير، لكي يكونوا فريق العمل في المجلة، وكان من بين هؤلاء الكتّاب من ثبتت صلاحيتهم بالفعل مثل محمد عودة وأحمد عباس صالح وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وزهدي ومصطفي محمود وغيرهم، والذين ما زالت قدراتهم في علم الغيب، ومن بين هؤلاء الجدد، كانت فوزية مهران، الكاتبة الشابة التي جاءت من الإسكندرية، وكانت قد تخرجت حديثا من كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، وبعد مقابلة سريعة، ضمها أحمد بهاء الدين إلي فريق كتيبة المجلة، لكي تكون معهم منذ العدد الأول الذي صدر في 12 يناير 1956. وبالفعل صدر العدد الأول، وكتبت فاطمة اليوسف المقدمة، ومنها: »عندما أعلنت عن صدور مجلة (صباح الخير) بدأت الناس تسألني: لماذا اخترت هذا الاسم بالذات؟، وكان السؤال قد وجَّه إلي مرة من قبل، منذ ثلاثين سنة، عندما قررت أن أطلق علي مجلتي الأولي اسم (روز اليوسف)، »وبعد إجابة فاطمة اليوسف عن السؤال، أنهت مقدمتها:» و(صباح الخير) تحية إشراق.. فيها إشراق الصبح، وفيها أمنية الخير، وهي تحية لقاء اعتدت أن أوجهها كل صباح إلي أولادي». وتضمن العدد مقالات وتقارير وتحقيقات ورسومات لإحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وصلاح جاهين وزهدي الذي صمّم غلاف العدد الأول ومحمد عودة وأبو العينين وأحمد عباس صالح ومصطفي محمود ويوسف الشاروني وغيرهم، وكان من بين هؤلاء الكاتبة الصحفية والأديبة الشابة فوزية مهران. وفي صفحة 52 كان موضوع فوزية مهران، والذي كان أول مادة تنشر لها علي الإطلاق، وكان موضوعا طريفا وحيويا تحت عنوان »الحب عند العقاد وعبد الحليم عبد الله وإحسان ولورانس»، وجاء الموضوع مفاجئا من كاتبة تنشر للمرة الأولي، كتبت في المقدمة : »إن الحب هو الموضوع الذي كتب فيه كل أديب!!، ومع ذلك.. فما أكثر ما يختلفون!!، إن كل واحد منهم ينظر إليه من زاوية .. إن رواية (سارة) لعباس محمود العقاد تنبض سطورها بقصة حب كبيرة.. والصفة البارزة في صاحب هذا الحب أنه لا يدع قلبه يطغي علي عقله..»واسترشدت فوزية مهران» بكلام للعقاد يقول فيه : »إذا ميّز الرجل امرأة لا لأنها أجمل النساء، ولا لأنها أوفي النساء، ولا لأنها أولي النساء بالحب، ولكن لأنها هي .. بمحاسنها وعيوبها، فذلك هو الحب!!..». وكان هذا الموضوع بمثابة البوابة الأولي التي أدخلت فوزية إلي عالم الصحافة والأدب، وكانت المجلة في ذلك الوقت تعمل علي نشر قصص قصيرة جدا، فكتب في هذا الشأن اليوسفان: الشاروني وإدريس، وكتبت فوزية في العدد التالي مباشرة، قصة في دقيقتين، وكان عنوانها »أحلام السهرة»،والقصة كانت تتحدث عن شاب يذهب مع والده إلي مكان عمله، وكان الأب يعمل جرسونا في أحد الكازينوهات، مما جعل هذا الشاب يتخيّل أنه سوف يحكي لزملائه عن ما رأي في الكازينو، وسوف يسرد لهم وقائع السهرة التي قضاها مع أسرته التي تكبّدت مبلغا ضخما في التذاكر والعشاء الفاخر، ولم تكتمل فرحة الشاب عندما فاجأه والده بأن يساعده في حمل و»تنزيل» الطلبات للزبائن، وعندما حمل الصينية، وذهب إلي أقرب مائدة، وجد زميله »حسن» في الفصل، يجلس مع أسرته ويراه، فيحبط أحلام حسن الصبيانية. قصة بسيطة جدا، فلنعتبرها قصة »البدايات»،ولكنها محكمة السرد والبناء كما يقولون، تتدفق منها مشاعر نبيلة، لا تنطوي علي أي تعقيدات، رغم الخيالات التي انتابت الشاب، ولكنها تؤكد المثل الشعبي الذي يقول »أن الكذب مالهوش رجلين»،وفسدت الكذبة قبل أن تحدث، بل عند ولادتها في رأس الشاب، وبالتالي تكسّرت عناصر تنفيذها، ولكن هذه القصة أدخلت فوزية إلي عالم الأدب والقص بامتياز، رغم انخراطها في الكتابة الصحفية، وعدم ترك موقعها في المجلة بعد أن فتحت جريدة »المساء» الجديدة أبوابها للصحفيين الشباب، وكانت فرصة التطور والتقدم في الجريدة الجديدة أكثر سرعة، فضلا عن المرتبات الأعلي في الجريدة، والتي صدر عددها الأول في 6 أكتوبر عام 1956. وبعد عدة موضوعات، كانت اختيارات فوزية جميلة للغاية، وكانت المجلة قد أنشأت بابا جديدا تحت عنوان »عصير الكتب»، ورافق المجلة منذ عددها الأول، واشتد عوده تحت سياط معركة حادة، بين مصطفي محمود وآخرين، فقد صدرت مجموعة قصص مشتركة، وكانت المجموعة تتضمن قصة لمصطفي محمود، ونشرت دار النشر مع المجموعة مقدمة احتفالية للدكتور طه حسين، ودراسة نقدية مطولة لمحمود أمين العالم، ولم يعجب هذا مصطفي محمود، فكتب مقالا في »عصير الكتب» تحت عنوان »مذبحة القلعة وأين يقف حق الناشر»،وهاجم فيه طه حسين والناشر ومحمود العالم دفعة واحدة، وكتب تأييدا له أحمد بهاء الدين رئيس التحرير، وفي العدد التالي كتب لطف الله سليمان ردّا قويا، أفاد فيه بأن مصطفي محمود كان يعلم بكل ذلك، ولم تخدعه دار النشر. هكذا ولد باب »عصير الكتب»،وكانت فوزية أول كاتبة تكتب في هذا الباب وجاء ذلك في العدد الخامس بعد الكتّاب الذين ذكرناهم سلفا، وكان موضوعها ممتعا وشيقا، وهو مقارنة بين المرأة في أدب يوسف السباعي، وفي أدب برنارد شو، وكانت هذه المقارنة جديدة علي الحياة الثقافية المصرية، ولكنها أفصحت عن كاتبة وناقدة وأديبة، تطوّع ثقافتها الانجليزية في اكتشاف موضوعات ثرية، فكما أدخلت في الموضوع السابق لورانس مع العقاد وعبد الحليم عبدالله، قارنت كذلك بين شو والسباعي، وهذا يدلّ علي أن فوزية كانت محيطة بالأدب الأجنبي، وبالطبع كتبت فيما بعد في هذا الباب، كما توارد علي الباب مجموعة كتّاب آخرين، ومن بين ماكتبته فوزية في هذا الباب مبكرا، »اعترافات الأدباء»،وكانت تجري حوارات قصيرة مع الأدباء مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم، ورغم قصر الموضوعات، إلا أنها كانت دسمة، ورافق موضوعاتها »بوكس» كان تحت عنوان »يقرأ هذا الأسبوع»،وكانت فوزية تذهب إلي الأدباء، لكي تتعرف علي قراءاتهم الحالية، ولم يقتصر الأمر علي الكتّاب والأدباء والمفكرين، ولكنها كانت تأخذ تصريحات من الفنانين أيضا، وتحية كاريوكا نموذجا، ونخرج من هذا الأمر أن فوزية مهران قد خاضت غمار الصحفة الثقافية في كل أشكالها، الحوار والتحقيق والخبر والاستقصاء.