في منتصف الغرفة وقف متدثرا بمعطف ثقيل يراقب ما يحدث حوله.. يتأمل بوابات العبور إلي الخارج.. القادمين من سفر بعيد أو الراحلين.. وما أن تخطو خطوتين إلي الخلف تكتشف أنه هو ذاته أصبح جزءا من إحدي لوحاته في معرضه الأخير »ترانزيت» الذي استضافه جاليري أوبونتو بالزمالك.. إذ اختار الفنان محمد خضر لنفسه دور المتأمل الذي سجل المشاهدات التي سكنته طويلا أو بالأحري طردها من الداخل المزدحم ليفسح مكانا لأحلام ورؤي جديدة. ولم يكن هذا هو العمل الوحيد الذي اتخذ الفنان لنفسه دورا ضمن أبطاله.. إذ تكرر وجوده مرة أخري في مجموعة »ترانزيت» لنتأكد كم هي مختلفة هذه المجموعة لتشبه ما نرويه من أحلامنا، إذ أراد الفنان بهذا المعرض أن يستكشف ذاته وأن يلتقط أنفاسه ليعيد قراءة تجربته الفنية والإنسانية بهدوء ونضج قبل أن يستأنف الرحلة من جديد، تماما كما هو الحال مع المسافرين في صالات الترانزيت. علي الصعيد الأعمق فإن الرحلة التي يعنيها الفنان هنا هي رحلته الفنية، إذ يعتبر المعرض إعادة صياغة تلك الشحنة الفنية المكثفة التي قدمها عبر خمسة معارض فردية سابقة وعشرات المعارض الجماعية والتجارب الفنية التي تنوعت بين البورتريه والطبيعة الصامتة وملامح وسط البلد، فيعيد الفنان تقديم موضوعاته الأثيرة هذه المرة بصياغة فنية مختلفة متخليا عن الألوان إلا فيما ندر، إذ يبدو الأمر كحكايات منفصلة متصلة تنتمي لنفس دفتر الحواديت يجمع بينها جميعا أنها خرجت من مساحة الأبيض والأسود والرماديات مع مسحة خفيفة من الألوان التي تظهر علي استحياء لتؤكد حالة التأمل الفلسفي. وعلي الرغم من أنه أعاد تقديم عدد من البورتريهات التي يجيدها والتي اشتهر بها كأحد أبرز فناني البورتريه في مصر حاليا، إلا أنه قرر أن يقدم مجموعات متنوعة تختلف تماما عما اعتاده المتلقي ليؤكد تمكنه من صياغة موضوعات فنية عدة بنفس البراعة، إضافة إلي أنه قرر أن يقدم البورتريهات والشخوص وكذلك مجموعة وسط البلد بأحجام صغيرة لا تتجاوز أحيانا كف اليد فارضا تحديا من نوع آخر، إذ أجاد اقتناص معالم المدينة ومعمارها وعمقها وحالاتها في ذلك الحجم الصغير ليتساءل الحضور كيف فعلها بتلك البراعة .. إذ يبتسم الفنان قائلا نحن نري العالم كله الآن من شاشة الموبايل، ولكن الأمر حقا له علاقة بحنكة المصور الذي أجاد الاختزال ومع ذلك احتفظ بالتفاصيل. وهو في أعماله مرتبط في الغالب بالبشر والأمكنة وحكاياتهم، فهو يجيد رسم معالم المدينة تماما كما يرسم وجه فتاة جميلة فيمنحها خصوصية وتفرد ويقترب من ملامحها فلا تشبه مكان أخري سوي ذاتها في لحظات تتسم بالعمق وهو ما نراه في تجربته في تصوير وسط البلد في لحظات السكون. يعيدنا اسم »ترانزيت» مرة أخري لحالة امتزاج البشر بالأماكن، بعد أن كان الفنان قد قدمه من قبل في معرضه »اسبريسو» حيث امتزاج البشر بالمقاهي الحديثة، إلا أننا في هذه المرة ننتقل لساحة لقاء جديدة تلك الحالة التي تتضح بقوة في المطارات، تلك المجموعة التي انحاز فيها للتجريد، إذ تبدو الشخوص كأرواح هائمة تبحث عن مرفأ، فغالبا ما يسير أبطاله وحدهم تاركين مساحات وحكايات وأشخاص ورائهم، في إحدي اللوحات يكاد يغيب الشخص تماما إلا من خطوط رمادية هادئة حيث يركن المسطح تماما إلي السكون. إن حالات الانتظار هي واحدة من الحالات المثالية التي نعيد اكتشاف أنفسنا، وفي معرض »ترانزيت» يختبر الفنان حالات مختلفة للانتظار أو بالأحري للتوقف المؤقت قبل استئناف الرحلة ليس فقط في المطارات، ولكن أيضا في الطرقات حيث تمتد الطرق أمامنا ونسرح في أضواء السيارات التي تضعنا في نفس حالات التأمل، ففي مجموعة السيارات التي خصص لها غرفة مستقلة يفاجأنا الفنان بمشاهد نراها يوميا ونعتادها، ولكن برؤية فنية أكثر عمقاً من مجرد رصد ظاهري لمشاهد متكررة. أما علي الصعيد الأكثر عمقا فإن الأمر له علاقة بتلك الفترات الفاصلة في حياة كل منا. وعلي الرغم من البعد الفلسفي والدلالات التي حملها كل عمل من أعمال هذا المعرض إلا أن ما يميز الفنان محمد خضر هو حنكته كمصور، لا يمكن أن يضحي بالتشكيل لصالح المفهوم، فمدخله إلي اللوحة تشكيلي بالأساس، وهو من المنحازين لمفهوم الفن الكلاسيكي الذي يعني بجمال العمل التشكيلي واكتمال عناصر بناء اللوحة، وقد ارتكز في هذا المعرض بالأساس علي معارفه التصويرية بالكتلة والفراغ والظلال والحوار بينهما في مقابل التلوين.. ويري خضر أن مفهوم المعاصرة حاضر في أعماله بمفهوم مغاير إذ أنه يري أن معاصرته تنبع من كونه يمارس الفن وينتج أعماله في العصر الحالي..وهو في ذلك أيضا يرفض القاعدة الشائعة القائلة بإن الإبداع هو أن تعرف القواعد جيدا قبل أن تقوم بتكسيرها، إذا يرفض تلك المقولة قائلا: أري أن لفظ الكسر يعني الهدم، وأنا أري أن الفن عملية بناء وتراكم، لذا فالابداع هو إعاده تقديم القواعد المتعارف عليها بصيغ مبتكرة أو تقديم قواعد جديدة من الأساس وليس كسرها.. فالفنان كعازف أوركسترا يمكن أن يتخلي أن آلة لكنه لا يتخلي عن الهارموني، أو كمخرج السينما من الممكن ان يقدم عمل فني مكتمل الأركان، حتي مع ضعف عناصر الإنتاج الأخري، وهنا يكمن الإبداع.