الصداقة، بحسب سمية، مواقف يربط بينها الفهم العميق لألم الآخر وجراحه دون حاجة لإفصاح أو حكي، وهي احترام نبيل لخصوصية الآخر، ورهافة حس تضمد الجراح، رهافة لا تسأل ما مصدرها، لأنها يجب أن تكون موجودة. في قصة »زمَّار هيلين» لسمية رمضان، تعيش الفتاة »العرجاء» علاقة صداقة مركَّبة مع أحمد، كانت تحب صدقه وعدله ووقوفه بجانب الضعفاء، لكنه كان يوبخها أحياناً.. تستدعي سمية في هذه القصة من مجموعتها »منازل القمر» الحكاية الأصلية للأخوين جريم، عن زمَّار يدعوه عُمدة لتخليص بلدته من الفئران التي اجتاحتها، وقضت علي الأخضر واليابس، لكن ذلك العمدة لم يستطع الوفاء بمبلغ وعد به الزمَّار، الذي ينفذ تهديده ويخلص البلدة من كل أطفالها، ما عدا أعرج لم يلحق بهم. انغلق باب مغارة علي هؤلاء الأطفال، بينما عاد الأعرج وحده للقرية، مواجهاً كراهية الأهالي الذين تمنوا لو كان الزمَّار قد أخذه بدلاً من أطفالهم. يقول أحمد للفتاة إنها بالطبع تحب الزمار، لأنه ترك الأعرج، ويوبخها بأسوأ كلمة تريد سماعها: » يا عرجاء يا شريرة»! هذه القصة توضح مدي انشغال سمية بالصداقة، وبالصدفة فإن أقرب صديق إليها اسمه أحمد كذلك، مثل بطل القصة، وهو الكاتب أحمد الخميسي، وعلاقتهما أيضاً يبدو أنها مركَّبة كالفتاة والصبي، بمعني أن سمية، كما تقول، لا تستطيع أن تتحدث في كل شيء أمامه حتي الآن، فهناك أمور تضايقه، ومنها علي سبيل المثال أي انتقاد لجمال عبدالناصر: »ربما يثور في وجهي، هو ناصري حتي النخاع، ولا يتحمل كلمة انتقاد واحدة فيه»، وتؤكد أن الاثنين، أحمد في القصة، وأحمد الخميسي، يتسمان بصفة »الإخلاص» في النهاية، غير أن الخميسي لا يمكن أن يخطئ أبداً في شخص ما. صداقتهما بدأت من خلال الورق. تقول سمية: »كتب، علي ما أعتقد عن ترجمة لي، مشيداً بها، ومؤكداً أن المترجمة لا بد وأن تكون كاتبة». بعدها التقيا في ندوة وتعارفا: »منذ اللحظة الأولي بدا وكأننا كبرنا سوياً، أو كأني كبرت وأنا أعرفه، بل وكأني أعرف شقيقاته الجميلات، وابنته البديعة الرقيقة آنا، وكأنني كنت جزءاً من ذلك البيت في شارع نوبار، البيت مفتوح الباب بشكل يجعل الكرم ودفء الاستقبال وصدق المشاعر كأنها أمور مفروغ منها، ولذا يصبح من الصعب تفسير استمرار الصداقة تلك. الإنسان لا يفسر أسباب استمرار صداقته بأخوته وأمه وأبيه». الصداقة، بحسب سمية، مواقف يربط بينها الفهم العميق لألم الآخر وجراحه دون حاجة لإفصاح أو حكي، وهي احترام نبيل لخصوصية الآخر، ورهافة حس تضمد الجراح، رهافة لا تسأل ما مصدرها، لأنها يجب أن تكون موجودة. هي أيضاً انعدام لكل الحسابات، إلا حساب مسافات الطرق وزحمة الشوارع. من ضمن مواقف كثيرة لا يزال الاثنان يضحكان عليها، أنهما ومعهما الشاعر الراحل أحمد إسماعيل، كانوا عند محام، وطلبوا منه رفع دعوي علي جريدة أهانتهم دون أي مبرر، في مقال أساء إلي ثلاثتهم مجتمعين. المهم أن أحمد الخميسي يحب، بحسب سمية، الادعاء أحياناً بأنه لا يسمع حتي لا يرد علي أمور يريد تجاهلها، وأحمد إسماعيل كان قد فقد معظم بصره. كان يوماً ممطراً، وذهبت سمية لإحضار السيارة من مكان »ركنتها»، بينما وقف الاثنان يتناقشان في موضوع جاد جداً، وهي تلف وتدور حول الميدان، فلا أحمد الخميسي يسمع الكلاكس ولا أحمد إسماعيل يري السيارة، ولا هي تعلم إذا كان هذا هو بالفعل المكان الذي تركتهما فيه، وما إن دخلا السيارة أخيراً حتي أطلق أحمد الخميسي سخريته الطيبة الذكية: »واحد ما بيشوفش، وواحد ما بيسمعش، وواحدة ما بتجمَّعش، ايه إللي يخليهم يرفعوا قضية علي جريدة ما بتتقراش»؟! ليست هذه هي الحكاية الطريفة الوحيدة التي جمعتها بالخميسي. تحكي سمية: »كان أحمد يعمل في مجلة (العربي)، وكان موقعها قريباً من بيتي. كنا لم نلتق منذ زمن، واتفقنا أن نتناول الغداء سوياً بعد انتهائه من العمل. دخلت مطعم فلفلة وأنا ملهوفة علي رؤيته وكان بجانب الباب رجل يشبهه كثيراً، وفي منتهي الثقة صرخت: أحمد! ازيك؟ واحتضنت الرجل! وتسمرت حينما أدركت غلطتي الفظيعة، واستدرت فرأيت أحمد يقف مبتسماً وراء طاولة قريبة. ذهبت إليه وأنا أتمني أن تنشق الأرض وتبتلعني، وشعر هو بإحراجي ورغم هذا أكمل عليَّ: طب إذا كان ده أحمد أبقي أنا مين؟». تحكي عن ابنها الأصغر ياسر طارق نصر، المترجم والشاعر، ذات مرة قال له أحمد عبدالمعطي حجازي: »انت ما تعملش حاجة تانية. انت تقعد تكتب شعر وبس»، تقول سمية: »ابني لا يكره في الحياة أكثر من المجاملات الفارغة. بعد نصيحة حجازي ذهب بديوانه ليعطيه لأحمد الخميسي، وعاد طائراً من الفرحة. سألته إن كان ذلك يعني أن الديوان أعجب الكاتب الكبير. ابتسم ياسر ابتسامة عريضة مطمئنة وقال: لا هو لم يفتحه. استغربت من غبطته فسألته: أومال فرحان قوي كده ليه؟! فكان رده لأن الدكتور أحمد فتح له الباب وسأله عما يريد، فلما أعطاه ياسر الديوان، وكان متوجساً من حديث بلا معني، إذا بأحمد يعفيه من الحرج ويقول: تستطيع أن تمضي الآن وسوف أطلبك حين أنتهي من القراءة». تعلق: »أحمد عملي جداً، ولا يعرف المجاملة، حتي لو كان الأمر يخص ابن صديقته»! إذا تعلق الأمر بالجندر، فهل الأقرب إلي امرأة.. امرأة مثلها أم رجل؟ تقول: »الصداقة كما سبق وقلت مواقف لا تدخل فيها المجاملات. والمواقف لا تنحصر في جنس دون آخر. الجدعان جدعان سواء أكانوا رجالاً أم نساء. تعرفهم من قلة كلامهم وسرعة تلبيتهم لندائك أياً كان. أذكر أن أحمد نزل من بيتهم في مدينة نصر حتي جروبي وسط البلد ليعطيني، لا ليقرضني، نقوداً كنت في أمسِّ الحاجة لها، وربما هو أيضاً كان في حاجة لها». هل تستطيعين العيش بدون صديق؟ تجيب: »لا أحد يستطيع العيش دون صداقات، وأنا إن كنت أبدو منعزلة، إلا أنها عزلة ظاهرية، لأن صلاتي لم تنقطع يوما بأناس أحببتهم، وتركوا بصماتهم في وجداني وعقلي وقدموا لي من العون والنصح وبادروا بالمساعدة دون طلب مني. وقدموني للنشر وهم لا يعرفونني وشجعوني علي الكتابة ودائماً ما وجدتهم بجانبي عند الحاجة. هم من الكثرة التي يصعب معها تسميتهم، نساء ورجالاً، ولأن ما قدموه لي يندرج في مجال الترقي. ترقي العقل والروح وكذلك الارتقاء بالنفس لمقام المحبة، وكل ذلك بلا شك يصب في الكتابة ولا بد». أكثر مشهد يعبر عن الصداقة عاشته سمية مع الحاج محمد مدبولي. كانت مدعوة لمعهد العالم العربي وطلبوا نسخاً من روايتها " أوراق النرجس" لكنها كانت قد نفدت، ذهبت إلي الناشر الأصلي فاشترط لإعادة النشر الحصول علي مبلغ لم يكن معها، وسمية حينما تشعر بالحزن تشتري كتاباً أو تقضي وقتاً في مكتبة، وهكذا ذهبت إلي مكتبة »مدبولي»، وكان الحاج مدبولي، رحمه الله، واقفاً في جلبابه الأنيق وسألها: »فين (أوراق النرجس) يا دكتورة؟ فقالت إنها نفدت. وعرض عليها إعادة طباعتها، ولم تصدق أذنها، واستعادت كلمات الناشر السيئة وهو ينهي حواره معها: ابقي شوفي مين هينشرهالك، وهكذا طلب منها الحاج مدبولي العودة إلي ذلك الناشر لتحصل منه علي تنازل عن حقوق النشر». تحكي: »يومها امتلأت المكتبة بروح عجيبة. كان الكل يبتسم وكان الحاج يقول دون أن ينبس: نحن أصدقاء. كان ينظر إليَّ نظرة فيها كثير من الفهم وكأنه قرأ حزني».