ربما تسأل عزيزي القارئ: وهل هناك حزن لطيف ؟!، يوجد حزن عميق وحزن يمزق نياط القلب، وربما حزن »أنيق» يعبر عن نفسه بمظاهر هادئة رصينة تخاصم الصخب والفجاجة.. لكن كيف بحق الله »للطف» أن يصلح وصفا للحزن؟!! علي كل حال تعبير »الحزن اللطيف» ليس من عندي ولكنه يعود إلي رسام بريطاني شهير يدعي جيمس ويستلر (1834 1903) أطلقه وهو يعلن علي الناس أن أفضل أعماله هي تلك اللوحة التي رسمها ذات يوم لصديقه الكاتب والمؤرخ البارز توماس كارلايل، وجلبت عليه وقتها عاصفة من النقد اللاذع (لكنها صارت الآن واحدة من علامات الفن التشكيلي الإنجليزي) وقد قال ويستلر إن سبب تفضيله هذه اللوحة بالذات: أنها »تعبر عن حزن لطيف أُحبه» a gentle sadness I love it (!!) ثم سكت ولم يشرح معني لطافة الحزن، وهو أمر يجعلني أتصدي أنا للمهمة في السطور المقبلة.. لعل وعسي. رأيي أن الحزن أنواع فعلا وكله سيئ طبعا، غير أن أشده سوءا ذلك الذي يغوص ويستقر في القلب ويثقل علي الروح ويطبعها بكآبة دائمة تحفر ملامحها علي سلوك الإنسان فيبقي طول الوقت حبيسا في زنزانتها لا يقوي علي أن يهضم الفرح أو يتذوق طعمه الحلو.. تستطيع أن تقول إنه إدمان للكآبة واليأس، إذ قد يغيب السبب الأصلي للحزن خلف غبار مجريات الحياة وزحام تفاصيلها، لكن بقاءه زمنا طويلا يضفي عليه قوة العادة من دون أن يتزحزح عن موقعه أو يخف ثقله. طيب، أين »اللطف» إذن، هذا الذي تحدث عنه الرسام »ويستلر» ؟!! في الواقع، ليس هناك أي لطف، الرجل يقصد (غالبا) نوعا من الحزن المديد الذي ضاع بطول الزمن، تعبيره الصاخب فأضحي راقدا بهدوء علي وجه صاحبه وكامنا ساكنا في سلوكه ولفتاته وحركاته.. يحدث هذا معنا جميعا أفرادا وجماعات. فأما حزننا الجمعي فنحن نعيش أقوي تجلياته هذه الأيام، وتستطيع أن تري في نفس حضرتك وفي وجوه أغلب من تصادفهم وهم يعبرون دروب الوطن وطرقاته، علاماته وملامحه وهي تقيم وتسكن »بلطف».. خصوصا ونحن نكابد مهرجانا عارما من التخريب والتفجير والتقتيل والاستشهاد، لا تكاد أخبار فقراته و»نمره»، تنقطع أو تستريح يوما واحدا، كما يُحكم ضيق الحال من قبضته القاسية علي النفس!! تستطيع أن تحتج علي العبد لله بحقيقة أن السخرية في واقعنا الراهن، مستمرة ومنتشرة بل ومستعرة ومزدهرة جدا، وأن نظرة واحدة علي فضاء التواصل الاجتماعي »الإليكتروني»، تمدك بمليون دليل يثبت أننا لم نفقد بعد روح الدعابة والعبث. إذا قلت ذلك، فعندك كل الحق فعلا، غير أن السخرية السوداء ليست دليلا علي غياب الحزن والكآبة وإنما هي أقوي إشارة وأوضح علامة علي وجودهما وتفاقمهما.. لقد صار حزننا الطويل »عبثا يائسا»، يائسا من مواجهة أسبابه مواجهة حقيقية منتجة.. لماذا؟ لأننا غارقون في فوضي عارمة يحرسها نفر من الناس لا يريدون الاعتراف بأن العقل غائب والرشد مفقود والعيون عمياء عن رؤية الأولويات والواجبات العاجلة منها والآجلة، ما يعوقنا ويعطلنا عن حصار ودفن الجهالة والعدم العقلي والتشوه الروحي، فضلا عن شتي أنواع البؤس الذي يورث الكفر و»التكفير».. بل إن البعض ربما يستظرف أو يستمتع بكآبتنا وحزننا، ويعتبر هذا الأخير »حزنا لطيفا» جدا يُستحسن أن نعيش فيه إلي أن تقوم الساعة !! و... أخيرا، عزيزي القارئ الكريم أكاد أسمعك تسأل متبرما: وما لزوم كل هذه السطور؟!، وربما تهتف الآن باستياء وحرقة قائلا: واحنا ناقصين؟! ولا إجابة عندي أو عذر، سوي أنني حاولت أن أجرب الكتابة بقدر من »اللطف الحزين».. وصباح الخير.