عاشت برلين حقا نشوة السينما.. فمهرجانها الدولى الكبير استعرض فى دورته ال 69 أكثر من 400 فيلم تمثل تيارات عديدة من مختلف أرجاء العالم، الجمهور العاشق للسينما يلتف حول دور العرض مصطفين فى طوابير طويلة لحجز التذاكر، فنسبة الإقبال تجاوزت نصف المليون مشاهد.. الكل يتحدث عن السينما ومخرجيها الكبار ونجومها.. الكل لديه حالة شغف بمفاجآت الأفلام وما تطرحه من قصص وحكايات وأساليب فنية. ألمانيا تعتبر مهرجانها الكبير بوابة حقيقية لنظرتها نحو التغير الذى تنشده سياسيا وثقافيا فى أوروبا، هى بانتقائها مجموعة أفلام تحمل قضايا مؤرقة يعيشها العالم توصل رسالتها السياسية وتتبناها مثلما تفعل فى قضايا الهجرة غير الشرعية والهوية والحريات، حيث عرضت فى هذا الإطار مجموعة من الأفلام تستعرض التغييرات التى تطرأ على العالم، ومنها الفيلم الاسرائيلى “مرادفات” الذى توج بجائزة “الدب الذهبى” فى المهرجان هذا العام، وهى الجائزة التى تنالها السينما الإسرائيلية لأول مرة ، والفيلم على المستوى الفنى جيد، ولم يكن بأفضل الأعمال التى تنافست بالمسابقة الرسمية على شاشة المهرجان هذا العام، لكنه بات يعكس منظور جديد للسينما الإسرائيلية. فى الفيلم الذى أخرجه ناديف لابيد، يطرح حكاية جندى شاب إسرائيلى اسمه يواف، يجسده توم ميريسيه يهرب إلى باريس للفرار من جنسيته، والتنصل من جذوره وماضيه الإسرائيلى ووطنه بالكامل على أمل أن تنقذه فرنسا من جنون بلاده، الذى يراها تعيش حالة من الفانتازيا السياسية والاجتماعية، والقصة مستوحاة من تجارب خاصة بناداف نفسه الذى يعيش فى باريس، وهو يبحث عن هوية جديدة فى وطن جديد حيث يعتبر الفيلم شبه ذاتيا لصانعه. ونعود إلى العمل حيث قرر الشاب كخطوة أولى فى محو أصله ألا يتفوه بكلمة من العبرية بعد الآن، وسيكون القاموس الفرنسى رفيق دائم له، وعينه على الجنسية الفرنسية، حيث يتجول مسرعًا فى الشوارع الرمادية المرادفات، التى تعكس أزمته، وهنا تنطلق الفكرة الأساسية للفيلم، وهى حكاية الهوية المفقودة والبدايات الجديدة. ففور وصل يواف يظهر فى مبنى سكنى ليتم سرقة مقتنياته الأخيرة، وبقى عارياً فى حوض الاستحمام وكأنه يولد من جديد هنا. “قوائم المرادفات” وفى هذا المسار المتذبذب للصور العشوائية فى تصوير الرحلة يطرح السؤال ، كيف يمكن استحضار الفكرة سينمائيا، ويبدو أن المخرج لجأ لقوائم المرادفات ككيانات حرة تعكس تأثيرات العالم الخارجى على نفسية الشاب وخاصة مع ترديدها فى حوار مع نفسه، مما يبرز التوتر الداخلى داخله، جنبا إلى جنب مع التوترات الخارجية التى تطفو على السطح كخلفية سياسية، وظهرت فى مشاهده العسكرية، كما ظهر فى مزيج متعمد من التصوير الفوتوغرافى الذى يحاكى العمل ويحاكى المشى السريع فى الشوارع الباريسية الرمادية التى تعكس سحر باريس مع مسح للمدينة الجديدة من واجهات المبانى والمقاهى. بشكل عام “مرادفات” هو فيلم غير عادى وغير مريح، لأن النهاية لم تكن حاسمة، لكن ربما أسلوب السرد لبطل القصة وجعل عقل المتفرج فى حيرة، ربما يكون ذلك وراء فوز الفيلم بالدب الذهبى، فالسينما ذو الفكر المحير وغير المريح فى طرح أفكاره ربما تشكل عنصر جذب للجنة التحكيم التى تتغير مفاهيمه ونظرتها بحسب ثقافة أعضائها ورئيستها جولييت بينوش. وكانت هناك تساؤلا لماذا ينظر يواف على الأرض طوال الوقت؟ لماذا نرى متفرجين مشاهد المجتمع الفرنسى الجديد مثل هذه الأسئلة يجب أن يجيب عليها المشاهد بنفسه، ليصنع أفكاره الخاصة أثناء المشاهدة، وليس فقط للاستهلاك ومن هو يوآف الذى يكره إسرائيل ويحصل على قاموس فرنسى فى البداية. فقط لتعلم العديد من المرادفات المختلفة لكره وطنه. يرفض التحدث ولو مقطعًا واحدًا من العبرية مرادفات” لا تدعو فقط إلى نقاش مكثف، ولكن أيضا تجربة أبعد من السينما. وفوق كل شيء، كل مشهد إما مضحك أو مثير أو درامى أو مجرد مظهر جميل، بغض النظر عما إذا كنا “فهمناها” أم لا!. وقال المخرج الإسرائيلي، ناداف لابيد، أن الفيلم أعطاه “متعة لا تنتهى وألما لا ينتهي”. “بفضل من الله” ومن الأفلام السياسية الاخرى على شاشة مهرجان برلين وإن اتخذت واجهة دينية، الفيلم الفرنسى الجرئ “بفضل من الله” By the Grace of God” للمخرج إخراج فرانسوا اوززون الفائز بجائزة الدب الفضى، وهو فيلم عن المسكوت عنه، عن الذكريات التى يخشى الضحايا الرجوع إليها والمثول أمامها حيث يمس عصبا حيويا، ويعالج قضية آنية وذات حساسية بالغة، تنظر أمام القضاء وهى الاعتداء على الأطفال فى الكنيسة الكاثوليكية. وهى قصة حقيقية وهناك مساعى الضحايا لمقاضاة كبير أساقفة مدينة ليون الفرنسية فيليب بارباران، صاحب النفوذ الكبير، للتستر على ما تعرض له أطفال وصبية من اعتداء وتحرش من قبل قس مسئول عن جماعة الكشافة فى إحدى المدارس التابعة للكنيسة فى ليون. وجوهر الفيلم هو الضحايا ذاتهم ورحلتهم للتصدى لأشباح ماضيهم، ولمن تسبب لهم فى الألم النفسى الكبير من القساوسة ومن المؤسسة الكنسية ذاتها. والبداية من خلال ألكساندر “ ميلفيل بوبو” المسئول المصرفى الذى يعيش فى ليون مع زوجته وأولاده الخمسة ثم يفاجأ على شاشة التليفزيون بصورة الأب برنار برينا وسط مجموعة من الأطفال فى مدينته ليون. ويبدأ فيض من الألم والذكريات ومواجهة ما حاول تناسيه على مدى أعوام. قرر أن يكبت ذكرياته عما تعرض له فى صباه من الأب برينا، الذى كان مشرفاً على الجماعة الكشفية فى أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات عندما كان ألكسندر طفلاً. لكن رؤية ألكسندر لبرينا (برنار فارلي) وسط الأطفال، بعد أن ظن أنه ابتعد عنهم وخوفه أن يواجه أبناؤه وغيرهم من الأطفال ما واجهه صغيرا، وغضبه إزاء بقائه مكتوف اليدين طوال هذه الأعوام، يجعله يرسل خطابا لرئيس أساقفة ليون، الكاردينال بارباران “فرانسوا مارتوريه” عما تعرض له. تعامل مهذب من الكنيسة وإصرار من مستشارة بارباران على أن الكنيسة لن تتوانى فى التعامل مع ما تعرض له، واعتذار بعيد عن أعين الإعلام، ولكن المتحرش يبقى فى موقعه الكنسى ولا يشلح ويبقى فى عمله مع الأطفال. وهنا يصر ألكسندر على إبلاغ الشرطة عما جرى له فى صباه، من أعمال مخله ويطلب فتح تحقيق رسمى بالأمر. وتتوالى الشهادات والقصص الشخصية للضحايا، ويبحث عن مزيد من ضحاياه وحياتهم وما اَلت إليه، وينضم الى الكسندر بسرعة فرانسوا وإيمانويل، وهما أيضا ضحايا الكاهن ، للادلاء بشهادتهم وحكى قصصهم والكشف عن الجروح التى أصيبوا بها. طوال حياتهم دون خجل لما عانوه، لكن تداعيات وعواقب هذه الاعترافات لن تترك أحدا سالما فى النهاية . استطاع المخرج فرانسوا اوزون ان يطلق صوته الغاضب ورغبته فى محاكمة الكنيسة لتسترها على التحرش والاعتداءات الجنسية على الأطفال وسط قساوستها ، ليكون احد اهم الافلام التى طرحتها شاشةمهرجان برلين السينمائى ، فالفيلم لم يأخذ تصريحا بالعرض الجماهيرى حتى الان لحين الحسم فى القضية . استطاع المخرج فرانسوا اوزون على مدار 137 دقيقة ان يطرح قضيته بسلاسة، وأسلوب سردى متناغم، وايقاع سريع ، وأداء واقعى لابطاله -ميلفيل بوبود ، دينيس مينتوشيت ، سوان ارلود، وفق نماذج متعددة للحكي، حيث كل واحد من الأبطال ينال حقه بمفردة عبر قصته، ثم تجمع الكل فى النهاية عندما توحد الهدف.