(..ومازالت صورة بيتنا القديم محفورة في ذاكرتي، ورائحة قدمه العطنة تملأ كياني رغم انقضاء فترة طويلة علي إزالته، ولا غرابة في ذلك، فقد ولدت فيه في 8 أغسطس 1923، وقضيت فيه السنوات الست الأولي من عمري، وعدت إليه كل صيف من مدينة أو أخري حيث تنقل أبي بحكم وظيفته في مجالس البلديات من دمياط إلي المنصورة إلي أسيوط إلي أن مات وأنا في الثانية عشرة من عمري..)، هكذا تستعيد الكاتبة والناقدة والمناضلة وأستاذة الأدب الانجليزي دكتورة لطيفة الزيات بعضا من سيرتها الأولي في مسقط رأسها، قبل أن تأخذها الحياة والمقادير من بلد إلي بلد، ومن بيت إلي بيت، ومن قدر إلي قدر آخر. لم تكن تلك الطفلة الصغيرة، والتي خرجت من البيت القديم والحميم والدافئ كما تصفه فيما بعد، وتعتبره أجمل البيوت التي احتضنتها علي الإطلاق، تعلم _ كأي طفلة _ ماذا تخفيه الأزمنة القادمة من أمجاد عظيمة انتشت لها روحها كثيرا، وانتكاسات أعظم أحزنت نفس الروح وهدمت بعض جدرانها المتينة كذلك، ويظل هذا البيت القديم، هو الملجأ الدائم الذي تقضي فيه العطلة الصيفية حتي عام التخرج في 1946، وظلت الطفلة التي أصبحت مناضلة شرسة في كلية الآداب، تعود البيت بعد التخرج عاما بعد عام، وبعد وفاة الأب في ذات عام التخرج، وكان هذا البيت هو الذي يحتضنها ويربت علي جسدها المثخن بالسجون، فبعد خروجها من سجن الحضرة في الإسكندرية عام 1949، وحكم عليها بحكم مع إيقاف التنفيذ، لم تجد سوي البيت القديم لتستمد منه الدفء والحنان المفقود. لماذا نتذكر هذا البيت الذي نشأت فيه لطيفة الزيات بهذا الاحتفال؟، ذلك لأن لطيفة نفسها احتفلت به علي أكمل وجه، واعتبرته المحطة الأولي التي انطلق منها قطار السعادة الذي ينتقل بها من بلد إلي بلد، وظل المأوي والسند والحياة والذكريات والأب والأم والجد الذي بني، والجدة التي كانت بمثابة شهرزاد الحكاءة، والتي نهلت منها الطفلة خيط السرد السحري الذي تجلّي في قصص وروايات فيما بعد، والأشقاء الذين ظلوا معها وبجوارها في العمر المديد، وكذلك كان بيت الحب الأول، والذي شهد دقات القلب الأولي البريئة والطازجة. ومن المؤكد أن لطيفة اتخذت من هذا البيت مركزا للحكايا التي أطلقتها في كتابها الممتع » حملة تفتيش..أوراق شخصية»، وراحت طوال حكيها لقصص عديدة في الكتاب، تتذكر كافة البيوت التي سكنتها، ومنها الدافئ والحميم، ومنها غير ذلك، رغم مايبدو عليها العكس، سنجد تكرار كلمة البيت في الكتاب، من أكثر المفردات المستخدمة، للدرجة التي توحي للقارئ بأن كاتبة هذه الذكريات تقلّبت في نعيم الحياة وجحيمها عبر البيوت بشكل أساسي. عرفت لطيفة المجد من أوسع أبوابه في منتصف عقد الأربعينيات، عندما كانت أشهر ثائرة في الحركة الوطنية الديمقراطية، وشاركت في انتخابات اتحاد الطلبة، ونجحت بامتياز، ونالت ثقة الطلاب جميعا، ولم تكن غاية هذه الانتخابات مجرد تبوّأ عضوية الاتحاد أو رئاسته، بل كانت تطرح برنامجا اجتماعيا وسياسيا لكي يتبناه الاتحاد، كما أنها اختيرت لكي تكون عضوا في اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال، تلك اللجنة التي قادت نضال الحركة الوطنية بصلابة في ذلك الوقت، وطرحت برنامجا ظلّت بنوده تراود الساسة والقادة والحركة الوطنية الناهضة عبر السنوات التي تلت عام 1946 حتي ثورة 23 يوليو 1952، وكانت لطيفة الزيات أشهر خطيبة في حرم الجامعة، تخطب ضد الملك والانجليز والديكتاتور إسماعيل صدقي رئيس الوزراء، وكانت تقود المظاهرات دون أي تردد، ودون أي ارتباك، تقول في مذكراتها: »..بحر من الشباب يتماوج علي كوبري عباس 1946، والشابة التي وجدت الملاذ في الكل قطرة من البحر، الفرح الشرس هي والقوة العارمة الفاعلة، والأنا هي الأنا والمعني لأننا نحن، بحر من الشباب يتناغم علي كوبري عباس، هديره يخلخل أوتاد استعمار قديم واستعمار جديد يتربص، وأنظمة عميلة، رجال البوليس يتبعون المظاهرة بهراواتهم الثقيلة..». وينفتح الكوبري، فيغرق من يغرق، وينجو من ينجو، ولكن قوس المظاهرات لا يظل في القاهرة فقط، بل ينفتح في الاسكندرية وكفر الدوار والمحلة الكبري، وينتشر كالنار في الهشيم كما يقولون، وتصبح جامعة فؤاد الأول، والتي شهدت هتافات آلاف الطلاب، مركزا للتمرد والاحتجاج والثورة، وتكون لطيفة الزيات هي البطلة بجدارة في هذا المشهد المهيب الذي عمّ البلاد من أقصاها إلي أقصاها في عام ثورة 1946 المغبونة والمهدورة، ولا تتوقف البطلة عن الهتاف بأشكال أخري، تارة تقول : »وعلي شط النيل تجلس الفتاة التي وجدت الملاذ في الكل تستر العري، عريها، عريهم، عرينا، تجلس ليلا وصبحا وضحي حتي ينتهي الغواصون من مهمة انتشال الجثث جثة بعد جثة، تتسابق يداها وأيدي الآخرين، الكثير من الأيدي والجثث ترتفع كأعلام عالية علي أيدي العاشقين، وشجرة العشق حية لا تموت ولا النحن التي هي أنا والنحن». هنا تتوحد لطيفة الزيات الشابة اليافعة مع الكل، تصير الأنا نحن، ويصبح النحن الأنا، أي بصيغة أخري يصير الكل في واحد، والواحد في الكل، وتصبح هي الانعكاس الجدلي للمجموع، والمجموع يصبح الانعكاس المباشر للأنا، والمقاومة هي القاسم المشترك لهذا البحر الهادر ضد السلطات الثلاث السياسية المعروفة آنذاك »القصر والاحتلال وكبار الملاك»، هذا الثالوث البشع الذي كان يخيّم علي صدر البلاد في تلك الفترة، ووجدت الفتاة نفسها تقاوم ذلك القبح المتمثل في تلك السلطات، ولكن هناك سلطة رابعة، لم تكن مدركة بشكل واضح، ولم يكن مصرحا بها، وهي السلطة الاجتماعية التي كانت تمنع الفتيات من المشاركة في مثل هذه الظواهر، رغم النداءات المتكررة بعد ثورة 1919 بمشاركة المرأة في الأنشطة السياسية، كانت لطيفة هي التمثيل العملي والأقصي لهذه المشاركة المأمولة، لم تكن مشاركة فقط، بل كانت قائدة وثائرة وبطلة لا يشق لها غبار. إذن ماذا حدث بعد ذلك؟، بعد أن تزوجت رفيقها الطالب بكلية العلوم أحمد شكري سالم، وقد تنقلت معه من بيت إلي بيت إلي بيت، ومن غرف مظلمة، ولا تنيرها سوي قلوب الرفاق، والحماس الوطني، غرف فقيرة جدا، ولا أمان فيها سوي الحب المتبادل بينها وبين زوجها الهارب من أعين البوليس السياسي، ومن هراوات الطغاة، ومن أعين العسس المنتشرين في المدينة، وكما أثنت لطيفة علي بيت الطفولة، أثنت علي تلك الغرف التي حملت أجمل ذكريات لها، ذكريات ظلّت تحمي روحها من الخراب، رغم ما تعرضت له فيما بعد من اغتيال شبه كامل، ماذا حدث لكي تتحول الفتاة الثائرة من حال إلي حال؟، حدث أن تم القبض علي الزوج والرفيق، وتعتقله السلطات، وتجد لطيفة نفسها شبه وحيدة، تفترسها الأهواء والهواجس والرغبات، وتصطدم بإلحاحات الروح والجسد دفعة واحدة، وتطلب من رفيقها المعتقل أن يقدم استكتابا للملك ليخرج حرّا، ولكي يكملا مسيرتهما، وبالفعل يقدّم شكري سالم أكثر من استكتاب للسلطات، يتعهد فيها بألا يعمل في السياسة مرة أخري، ولكن ترفض السلطات تلك الاستكتابات، ولا يفرج عنه إلا بعد قيام ثورة يوليو، ولكن لطيفة الفتاة الثائرة، تنفصل عنه بشكل درامي، لتتزوج النقيض الكامل له، أستاذها الدكتور رشاد رشدي، والذي سيوفر لها أجمل البنايات، لكن تلك البنايات لا توفر الأمان والحب والدفء الذي افتقدته طيلة ثلاثة عشر عاما، من العام الذي ارتبطت فيه به 1952حتي العام 1965 كما تعترف بشجاعة نادرة في مذكراتها. سيقول البعض بأن واقعة الاستكتاب هذه ليست موثقة، وليس منصوصا عليها في مراجع مكتوبة أو مدوّنة، ولكنني أنقلها كما رواها الرفاق بشكل متواتر ومتعاطف مع لطيفة، وظلّت هذه القصة من القصص المسكوت عنها في حياتها، وربما تكون قيلت عبر لطيفة نفسها بشكل أدبي أو فني، وهي الحكاية الأصدق، وعلي القارئ أن يصدقني أو لا يصدقني، ويعتبرها واحدة من ترّهات مؤرخ، ولكن لطيفة تسرد كثيرا من الذكريات حول هذه القصة، ومن خلال التداعيات سنفهم أن كارثة ما قد حلّت بالفتاة، وظلّت هذه الكارثة تدق أبواب الروح، وما لم تعلنه لطيفة في مذكراتها أن اشتداد أزمة وتفاقم الكارثة أتي مع زواج رشاد رشدي عام 1962، وهنا أفتح قوسا لما كتبه فاروق عبد القادر في كتابه »من أوراق الرفض والقبول»، في مقاله »تجليّات رشاد رشدي وعودة ذي الوجه القبيح»، وسوف أنقل فقرته الطويلة التي يقول فيها : »وأعترف أنني أجد شيئا من الحرج في الوقوف عندما كتبته أرملة رشاد رشدي _هي ثالث زوجاته علي وجه اليقين_، ذلك أنني مازلت أجد معني لشاعرنا القديم (واعفّ عما في سرا ويلها)، ولكن : لا بد مما ليس به بد، فقد تكون السيدة ثريا أحمد حسن حرّة في أن تغيّر اسمها إلي ثريا رشدي، وأن تصدق أو تكذّب حفنة الأكاذيب التي ترويها عن حياة رشدي الخاصة، وأن تدافع _مقتنعة أو غير مقتنعة_ عن سريّة زواجهما ، والسبب الحقيقي الذي لم تذكره أبدا ، هو أنه كان متزوجا آنذاك_1962_ بالدكتورة لطيفة الزيات..». وهنا أغلق القوس، فقط أردت أن أقول بأن لطيفة الزيات لم تهجر العزّ الذي وفره أستاذها رشاد رشدي مجانا، بل كان هو ذاته، والذي أهداها مسرحيته »لعبة الحب»، ارتبط بواحدة أخري، وصارت بديلا كاملا لها، وهي التي أعطته شبابها وتاريخها واسمها، وأكثر من ذلك أهدته روايتها »الباب المفتوح» عام 1960، إلي أستاذي الدكتور رشاد رشدي، وكان من الممكن أن تسير الحياة هادئة تماما، أو شبه هادئة، ولكن الذي لم تذكره لطيفة، وسيظل ناقصا في مذكراتها البديعة، هو دخول البديل القاتل لها ولزواجها ولحياتها بشكل كامل، بعد أن سألها أستاذ عقب الطلاق: ولماذا تزوجته أصلا؟ فأجابت بشجاعة ووضوح: كان أول رجل يوقظ الأنثي فيّ. شجاعة نادرة، ولكنها ناقصة، وهذا النقص لم يكتمل إلا بإبداعها القليل والمكثف الذي أتي فيما بعد، واستدعت فيه كل أشكال ومضامين حياتها، لم تملك لطيفة كل الشجاعة لكي تقدم تقريرا عن تفاصيل ماعاشته، وهذا ليس مطلوبا علي غرار تقارير البوليس، ولكنه ظهر في إبداعاتها التي أتت فيما بعد، إبداعاتها التي ظلّت تقترب رويدا رويدا من الحياة الأولي، فجاءت رواية »صاحب البيت» من أبدع ماكتبته، واستدعت الفترة التي عاشتها في أعوام ماقبل ثورة يوليو، الحالة التي كانت لطيفة مطارة ومطلوبة من البوليس السياسي، وهنا كتبت أجمل أغنية، وليست مرثية لتلك الفترة التي كانت تناضل فيها من أجل مستقبل مشرق، وكانت الأنا في الكل، والكل في الأنا، قبل أن تصير الأنا هي الأنا وفقط، وتبحث عن الخلاص الخاص في أحضان رجل لا يخلص لها، وفي بيت لا يحمل أي دفء، جاءت رواية »صاحب البيت» بما يشبه الاعتذار عن فعل كارثي ألم بالبطلة في وقت ما، فكسر الروح والنفس وكل أقواس النضال التي كانت مرفوعة عاليا، ومشرعة في ظل سلطات عاتية، كارثة ظلّت شبحا يمثل لها في كل ماكتبت فيما بعد. وكانت مجموعة »الشيخوخة» القصصية، معبرة تعبيرا مريعا ومريبا كذلك عن زيجتها الثانية، زيجتها بذلك الأستاذ الذي كان يضاجعها في بيت شرعي، ولكنه لا يملك شرعية قلبها، ربما تكون تلك الكتابات بمثابة اعتذارات عميقة، وما أجملها اعتذارات، فما كان ناقصا في مذكرات، جاء كاملا في الإبداع، ومن المسكوت عنه في مذكراتها، أن لطيفة الكاتبة والمبدعة، لم تمنع قلمها عن أن يقرّظ كتاتبات زوجها ، في الوقت الذي كان كل الكتّاب التقدميين ينفرون من مسرحياته، وهذا ما سنتعرض له لاحقا. لطيفة الزيات حياة عامرة، ولكن تحولاتها أكثر كثافة من كل ما ورد في مذكراتها، فحياتها وكتابتها وإبداعها، لا تصلح بضعة سطور أن تحللها وتحصرها، وهذه مهمة أتمني أن أتصدي لها قريبا بعون الله.