يصعب علي البعض استيعاب أن عملية الترجمة لأي كتاب يمكن أن تؤثر بشدة في إدراك القراء له، بل وربما تأخذهم لمنحي مغاير ومختلف قليلًا أو كثيرًا عما يقصده مؤلف الكتاب الأصلي، بالتالي يصبح الحديث عن أفضلية ترجمة علي أخري أمرا له معني ويستحق التوقف عنده، ولكننا هنا أمام ترجمتين تكمل الثانية الأولي لكتاب جيمس بار عن الصراع في الشرق الأوسط الذي قامت بترجمته سلافة الماغوط ثم وضعت له ماريا الدويهي ترجمة أخري بعدها بنحو ثلاثة أعوام لتلتقي الترجمتان في القاهرة. وجد الكاتب والمؤرخ البريطاني جيمس بار ضالته في الوثائق السرية وأرشيف العمليات الاستخباراتية والجاسوسية الخاص بالبريطانيين والفرنسيين، والتي يتم الإفراج عنها تباعًا بعد مرور 50 أو 70 عامًا بحسب القوانين التي تحكم هذه الأمور في البلدين وتلزمهم بذلك، ليسعي بجهد كبير حتي يتوصل لحقائق وأسرار تتعلق بمحل بحثه. تخرج بار في كلية لينكولن بجامعة أكسفورد حيث درس بها »التاريخ الحديث»، وكان أكثر ما حرك قلبه وعقله هو حجم الزيف في التاريخ المكتوب وخاصة في أوروبا، وذلك نتيجة نقص المعلومات، هذا الزيف يكشفه التناقض في المواقف والتبريرات غير المقنعة، ووجد أن أكثره فجاجة ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، لهذا أخذ علي عاتقه كشف المؤامرات التي تتعرض لها هذه المنطقة، وحاول أن يستفيد من كل وثيقة يتوصل إليها. ويبدو أنه قد قسم عمله لمراحل بحثية تتراوح بين خمس وست سنوات، فبعد بحث في الوثائق السرية التي يفرج عنها تباعًا واستمر لنحو خمسة أعوام، صدر أول كتاب له في رحلة الكشف عن المؤامرة التي تحاك علي منطقة الشرق الأوسط عام 2006، وكان عنوانه »الصحراء تشتعل.. ت. إ. لورنس والحرب البريطانية السرية في شبه الجزيرة العربية»، وتناول فيه ما اعتبره بداية الفصل الحديث من المؤامرة، والدور الذي لعبه من أطلق عليه لورانس العرب في المنطقة. بعد خمس سنوات أخري من البحث؛ عاد بالكتاب الثاني من السلسلة عام 2011 وعنونه ب»خط في الرمال.. بريطانياوفرنسا والصراع الذي شكل الشرق الأوسط»، والذي أصدر منه نسخة صوتية في العام التالي، وهو الكتاب الذي نحن بصدده في مقامنا هذا، وواصل بحثه ثم مؤلفاته بكتاب »لوردات الصحراء..صراع بريطانيا مع أمريكا للهيمنة علي الشرق الأوسط» عام 2018. وجاء كتابه »خط علي الرمال» مختلفًا من حيث فكره وبنائه عن سابقه حيث أدرك بوضوح خيوط المؤامرة، وتناولها بأسلوب يجمع فيه بين التأريخ والدراما الروائية والرؤية السياسية الشاملة، وركز فيه علي الشخصيات التي لعبت دور العميل أو الجاسوس لصالح بريطانياوفرنسا بينهم العرب الذين تم تجنيدهم وجعل من بعضهم أمراء بحسب وصف بار في كتابه. كانت نقطة الانطلاق مع شخصيتي العقيد الإنجليزي »مارك سايكس» والدبلوماسي »فرانسوا جورج بيكو» واللذين اجتمعا علي رسم خط فاصل يقسم منطقة النفوذ العثماني من الوطن العربي في آسيا بين بلديهما، وعقد اتفاقية تشبه ما خرج بها مؤتمر برلين لتقسيم أفريقيا بين فرنساوبريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية وألمانيا وغيرهما، ولكن اتفاقية سايكس بيكو كانت سرية وسبقها أعمال قذرة ودنيئة قاما بها بحسب وصف بار أيضًا، فكان شرق الأردن والعراق من نصيب بريطانيا، سوريا ولبنان لفرنسا، وفلسطين تدار دوليًا، وما تبقي من أراض للعملاء العرب الذين باتوا أمراء. اهتم جيمس بالجوانب الشخصية لكل عميل، والتي بينت أن اختيارهم جاء بعناية فكان لدي كان منهم نقيصة استغلتها أجهزتهم من أجل تحقيق أهدافها، فكان لدي تشرشل عقدة مع أبيه، والذي بدأ مشواره كعميل سري ومدبر يقوم بالعمل القذر في العديد من المستعمرات البريطانية من الهند إلي كوبا وأفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. كما عاد للضابط البريطاني »توماس إدوارد لورانس» الملقب بلورانس العرب وكشف عن عقدته مع أمه، أنه كان عميلًا مخادعًا أوهم العرب بوعود كاذبة من أجل مساعدة بريطانيا ضد الإمبراطورية العثمانية أي استبدال استعمار بآخر بينما كان لورانس ينفذ خطة بلاده كما كان جزءًا من خيانة العهود مع الجانب الفرنسي الذي لم يكن أقل منهم في ذلك من خلال عملائه، فكان هناك العسكري الفرنسي وعميل باريس »هنري غورو» وهاجسه في استعادة القدس ممن اغتصبوها عنوة بحسب رؤيته، وهو ما حققه عميل آخر وهو العسكري الإنجليزي »إدموند ألنبي»، وصوره البريطانيون كفاتح ومحرر للأراضي المقدسة وليس عميلًا دنيئًا يجند العرب مع لورانس. وقسم بار كتابه لأربعة فصول زمنية الأول من 1915 إلي 1919 كتمهيد وجعل الأجواء مواتية، ثم من 1920 إلي 1939 لإعداد الأرض وتجهيزها، فالفترة من 1940 إلي 1945 لخوض معارك سرية علي الأرض، وصولًا للتمكين والاستحواذ وجني الثمار ما بين عامي 1945 و1949، لتبدأ مرحلة جديدة مع الكتاب التالي ودخول الأمريكان في الصراع علي منطقة الشرق الأوسط، وما لاحظه جيمس أن بعض هؤلاء العملاء الذين تتبعهم ينال مكافأته الخاصة بتولي منصب سياسي رفيع فيما بعد بعيدًا عن التمثيلية الهزلية المتعلقة بالديمقراطية المفتعلة التي تقبلها الشعوب إما لكونها جاهلة مخدوعة أو مدركة يائسة، كما كشف كذلك دور الفرنسيين في دعمهم للعصابات الصهيونية في فلسطين بالسلاح والمال. قامت الكاتبة والشاعرة سلافة الماغوط، ابنة رائد الشعر السوري محمد الماغوظ، بترجمة الكتاب ليصدر عن دار الحكمة عام 2015، وقد اجتهدت في ترجمته كثيرًا، ثم عبرت عن أهمية أن يقرأه المواطن العربي لاعتقادها أن هناك رابطًا بين هذا التاريخ القديم وأحداثه وما تمر به منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة. تناول الماغوط لهذا الكتاب كعمل قائم بذاته، دفع الباحثة اللبنانية ماريا الدويهي لأن تضع له ترجمة جديدة بعد ثلاث سنوات أو ما يزيد قليلًا تتبعت فيه رحلة بار البحثية، فقامت بترجمة الكتاب الأول الخاص بلورانس والصحراء تشتعل، وكانت تعمل علي ترجمة الثاني الذي صدر حديثًا وهي علي دراية بالثالث، فكانت تعبيراتها أكثر دقة تجاه ما كان يستهدفه بار المؤمن تمامًا بأن المؤامرة علي الشرق الأوسط والوطن العربي مستمرة وليست تخيلات أو هواجس مريضة وأنه سيظل يتتبع هذه المؤامرة وصولًا للوقت الراهن.