في يوم 27/6/1990، غادرت مصر علي متن طائرة إلي الولاياتالمتحدة، في طريقي إلي مستشفي سانت لوك في هيوستن لإجراء جراحة دقيقة بالقلب تحدد لها يوم 16/7/1990. وكان هدفي من الرحيل مبكرا، أن أخلو إلي نفسي أياما قبل الجراحة أفكر وأتأمل وأبحر في عوالم كثيرا ما تشغلنا هموم الحياة وأحداثها الجسام والتافهة !! عن التأمل فيها !!.. في رحلتي لم أصحب معي غير القرآن الحكيم وكتاب » معالم التقريب » لشيخنا العلامة الجليل الأستاذ محمد عبد الله محمد المفكر والشاعر والمحامي الشهير ومؤلف عمدة المراجع » في جرائم النشر ». إن صحبة القرآن والسياحة فيه صحبة طبيعية معلوم أسبابها.. فلماذا »معالم التقريب» بالذات وكنت قد قرأتها ثلاث مرات قبل الرحلة، بل شاركت في جمعها للنشر في كتاب الهلال عدد مارس 1989، مع ما يصاحب هذا الجمع من تكرار للقراءة الدقيقة الملمة الواعية ؟! لماذا معالم التقريب ؟ السبب أن » معالم التقريب » هي أكثر ما قرأت فهما للدين وللقرآن وإلمامًا واعيًا عميقًا بفلسفته وروحه وأحكامه.. وهو إلي ذلك دعوة عميقة جادة للتقريب بين المسلمين.. في معالجة مليئة بتضاعيف وسبحات تثير الفكر وتدعو إلي التأمل.. فالتقريب هو اتجاه جاد داخل الإسلام، مجرد تماما من اللون الطائفي أو العرقي أو الإقليمي، يسعي للتخلص من العداوة معلنة أو خفية بين أهل المذاهب صيانة لوحدة المسلمين التي تدور حول التسليم بحقوق عامة للمسلم في كل بلاد الإسلام، وأهمها عصمة دمه وماله وعرضه وألا يظن به السوء، وثانيهما التمسك بأخوة المسلم برغم اختلاف مذاهب مدارس الفكر.. فالخلاف المذهبي حين يصبح عداوة يكون قد صار أهواء ومصالح، وهذا لا يواجه إلا بلفت النظر والاعتياد علي تذكر أنه لا خلاف علي الأساسيات.. فإله الجميع واحد.. ونبيهم واحد.. وكتابهم واحد.. وقبلتهم واحدة.. وهذا هو رأس مال كل مسلم.. ولابد من تذكره لكي تتجه قلوب المسلمين وعيونهم إلي المستقبل المشرق الذي ينتظرهم إذا تآخوا وتحابوا.. الأستاذ محمد عبد الله محمد الأستاذ محمد عبد الله محمد، عالم موسوعي، ومفكر فذ، وواحد من أكبر عمالقة جيل الرواد.. تتلمذ عليه آلاف ملأوا الدنيا.. بعضهم شغل ويشغل أرفع المناصب والمواقع ما بين كرسي الوزارة ورئاستها ورئاسة البرلمان.. ومع ذلك لم تغره شهرته ولا دائرة تلاميذه الواسعة بالخروج عن عزوفه الشديد عن أي رغبة في التصدر أو عرض النفس !!.. ظاهرة طبيب الملايين ! في كتابه » معالم التقريب » بين المذاهب الإسلامية ؛ يوضح أن التصدي للدعوات كثيرًا ما يكون مقرونًا من الناس بوهم كل واحد منهم أنه هو طبيب الملايين !! بل طبيبهم الوحيد !! وأن مرضاه وهم ملايين البشر لا يمكن أن ينتظروا منه أكثر من أفكار أو نصائح أو وصفات مقولة أو مكتوبة ليس عليه منها تبعة ولا عهدة صدقت أم لم تصدق اتبعت أم لم تتبع.. وكل منا قد مر في الغالب بمثل هذا الموقف وحاول مرة أو مرات أن يقوم بدور طبيب الملايين علي هذا النحو وهو يظن أن ملايين العالم يترقبون العلاج والإصلاح علي يديه !! ووراء هذه النزعة، رغبة غريزية في التصدر والقيادة والأهمية، مقرونة بقدر كثير أو قليل من الحرص الغريزي علي إشباع رغباتنا الذاتية بأقل ما يمكن من الجهد والمشقة والخاطر، وبأكثر ما يمكن من الأمن والدعة والعافية !! الإحساس الكاذب ! ومهما يكن من أمر هذه النزعة، فإن اعتيادها فيما يقول أستاذنا الجليل محمد عبد الله محمد يحيي لدي كثير من الناس إحساسا كاذبا بالعلم والخبرة والجدارة والتفوق ؟!! ويخلق لديهم شعورا طفوليا صبيانيا بأن تغيير أوضاع الحياة وتحويلها وتشكيلها سهل ويسير.. وكثيرا ما يقترن هذا الإحساس الكاذب والشعور الطفولي بجرأة بلهاء علي مناهضة نواميس الكون وتحويلها، وضعف التبصر بالنسب بين الأشياء والفروق وبقيمة الزمن والشعور بمعني الواقع وصلابته وصلة الواقع بالممكن، فتنحجب عنا دون أن ندري الهوة التي تفصل بين الممكن وبين الوهم والخيال الهاذي.. ولو فهمنا هذا لأدركنا أن طريق الدعوات الأعظم، هو الإنسان نفسه لا فيما يقوله أو يدعيه أو يتشدق به، إنما في حياته نفسها وسلوكه ومواقفه وتصرفاته وأفعاله وردود أفعاله.. باطنه وظاهره.. غيابه وحضوره.. جده وهزله.. فخطاب الناس بالمواقف والتصرفات والأفعال أقوي أثرا وتأثيرا من الدعاوي القولية والخطب الرنانة والانفعالات الحماسية !! علي أن الناس تهرب كثيرا من المواقف والتصرفات والأفعال الجادة المجدية إلي الكلام والتشدق، لأن الكلام سهل بينما تحتاج الأفعال إلي مزيد من الجهد والمشقة وشجاعة القلب وقوة التمسك والثبات في وجه الصعاب والمخاطر، ولأنه لا يتحقق لأصحاب السكينة والوقار والعفة ما يتحقق في يسر وسهولة للمتشدقين بالكلمات من إسراع إلي الزعامة والتصدر والقيادة والركوب علي رقاب الناس !! فكرة المكانة ! ذلك أن فكرة » المكانة » مطلب لدي الناس قديم، ويكاد يكون في زمننا مطلب الجميع.. يقتتل عليه الكل، ويرهقون أنفسهم وأهلهم وذويهم وأشياعهم من أجله.. يتشدقون بالمساواة، ولكنها عندهم مجرد كلمة تقال سرعان ما ينفلت ملقيها منها ومن تبعاتها ويسعي بالوعي وباللاوعي للتصدر وطلب الرفعة والمكانة وعلو القدر والمنزلة وامتلاك الحكمة والفوز بالزعامة والاستئثار بالقيادة.. فهو أعلم الناس وأفقه الناس وأذكي الناس وأخلص الناس وأبعدهم بصرا وبصيرة وأكثرهم قدرة علي سياسة الناس وقيادة الكتل والجموع !!! هؤلاء الناس يتشدقون بالمساواة، ولكنهم في هلع من التشابه والتماثل فيما يؤثر بالنقص علي » المكانة » العليا التي ينشدونها.. وهم لذلك في صراع لا يني ولا يهدأ للطفو فوق بحر العاديين غير المعروفين من الناس ؟! كل منهم يسعي حثيثا للفرار من اللا اسمي وحفر اسمه علي جدار الزمن، وأن يقرئ الدنيا اسمه في كل عمل يعمله.. حتي في التفاهات والحماقات !! لا تكف الأيدي ولا تني ولا تشبع من الكتابة ومحاولة الكتابة علي سبورة الدنيا التي لا يثبت عليها في الواقع خط واحد !! التوحد مع الكل إن المسلم السوي لا يفتنه شيء من هذا كله، ولا يهمه أن يكتب اسمه علي شيء أو حتي أن يعرف الناس وجوده أو أن يمنحه الناس صيتا أو مجدا، لأنه موقن أن الناس ينسون ويموتون، وأن الله تعالي وحده حيّ لا يموت.. وأن ما عنده سبحانه باق ومحفوظ لا ينسي ولايضيع.. مهما جحده أو نسيه الناس !! المسلم السوي يتوحد مع الكل.. يعي أن نفحة الله تعالي فيه هي للكل ومن أجل الكل، لا تهمه صدارة ولا قيادة ولا وجاهة ولا أبهة.. يدرك أن الصورة الإسلامية الحقيقية إنما توجد مع وجود المعني الجامع وهو الله عز وجل، وبالولاء المطلق لله عز وجل، وفيه وبه لا تنشد النفس سوي رضائه سبحانه الذي تتضاءل وتتلاشي أمامه مغريات المكانة والتصدر والوجاهة !! المسلم السوي يفهم أن » المكانة » لا تأتي بالضرورة لمن يطلبها ويجد في طلبها، وأنها قد تأتي ساعية بنفسها إلي من لا يطلبها بل ويبالغ في العزوف عنها والزهد فيها.. والزهد في » المكانة » والعزوف عنها يحتاج إلي مجاهدة لأنه مضاد لطبيعة الآدمي.. وهذه المجاهدة أيسر بحكم الطبيعة والدور لدي الحكماء والمفكرين والعلماء. منها لدي المنشغلين بلجج الحياة أو المشاركين في إدارة شئون الناس.. فتنافس هؤلاء قد يجرفهم رغبة عارمة في التصدر والقيادة، بدعوي أن كلا منهم أحكم الناس وأخلص الناس وأقدر الناس.. لذلك يندر بين هؤلاء من تتواري ذاته في سبيل الكل.. ومع ذلك فلم ينعدم وجود أمثال هؤلاء ( النادرين ) في القديم والحديث.. منهم الصحابي الجليل.. أمين الأمة.. وأحد العشرة المبشرين بالجنة.. أبو عبيدة عامر بن الجراح.