وسط كل ذلك، جاءت المفاجأة المذهلة من حيث لانحتسب ولانتوقع مطلقا، عندما نبّهني أحد زملائي في العمل أن حركة التنقلات السنوية صدرت وأن إسمينا- عائشة وأنا- قد وردا في الكشوفات وأنه رأي الحركة بنفسه. لم أصدق بالطبع إلا عندما هرعت إلي أحد المكاتب وشاهدتُ بنفسي. تذكرت أنني قبل القبض عليّ كنت قد قدّمت طلبا،وطلبا آخر لأحمد طه الرجل الوطني والنائب في البرلمان آنذاك، وطلبا ثالثا عن طريق أحد أقربائي الذي يتولي منصبا رفيعا في الوزارة، دون أي أمل بل لمجرد المحاولة المحكومة بالفشل لأنني مُبعد لأسباب أمنية ولست منقولا من القاهرة للوادي الجديد، وعندما أُلقي القبض عليّ، كان من الطبيعي أن أستبعد تماما مسألة النقل. بدا لي أنه علي الرغم من أن للبيروقراطية مخالب وأنيابا، وعلي الرغم من أنها شبكة عنكبوتية محكمة تضرب في أعماق التاريخ وعمرها خمسة آلاف عام.. إلخ إلخ.. إلا أنها أخطأت. لم يكن هناك وقت للتأمل طويلا، وربما أن أحد الأوراق الواصلة بين الداخلية والتربية والتعليم ضلّت طريقها، وربما أن اللعبة أكثر عمقا، وأن الداخلية وافقت لأكون في متناولها. لم أفكر طويلا وفضّلت أن أستسلم لفرحة غامرة تشبه فرحة الإفراج عني. ولما كانت إجراءات النقل من الوادي الجديد إلي خارجه بالغة الصعوبة والتعقيد، أخذت أسابق الزمن متصورا أن هناك خطأَ ما، وسوف يتم تداركه ويلغون قرار النقل. كان عليّ أن أحصل علي العديد من إخلاءات الطرف لي ولعائشة من كثيرمن الأماكن المتباعدة. من الإدارة والمديرية والبنك والشركات الحكومية. وفي الوقت نفسه كانت عائشة تقوم بجرد مكتبة المدرسة التي تعمل فيها كتابا كتابا لتحصل علي إخلاء الطرف. وكان علينا أيضا أن نهدي جيراننا حاجياتنا التي كنا نستخدمها في بيتنا الذي استأجرناه، كما فشلنا في بيع ماتصورنا أنه يمكن بيعه، خصوصا وأننا كنا نسابق الزمن فعلا خائفين ومضطربين من إمكانية إلغاء قرار النقل فورا، وهدم كل مانبنيه. أمضينا مايزيد علي أسبوع بالغ التوتر والقلق لإنهاء عشرات الإجراءات، بينما كنت أنتظر أن يفاجئني فرع مباحث أمن الدولة بالوادي الجديد بإيقاف قرار النقل، أو ترسل الداخلية قرارا مشابها، أو يكتشف أمن الوزارة أن قرار النقل مرّ عليه دون أن ينتبه.. وفي الأسبوع التالي كنا قد أنهينا كل شئ تقريبا، ولم يعد هناك إلا الفراش الذي ننام عليه وبعض الأواني القليلة التي اتفقنا مع الجيران علي إهدائها. المفاجأة التالية التي أشرفتُ علي البكاء بسببهاأن زملائي في المديرية نظّموا حفلا لي بمناسبة نقلي، وتناولنا الحلوي معا وشربنا الشاي وألقيت الكلمات العاطفية، واستأذنت أنا لأختفي دقائق بعد أن غلبني البكاء. وفي نهاية الحفل أهدوني لوحة كبيرة مكتوبا عليها سورة الإخلاص. حافظت علي الهدية لوقت طويل، ولففتها بعناية واصطحبتا معي حتي استقرت علي جدار الصالة في شقتنا في وراق العرب التل. المفاجأة التالية أن جيراننا الفقراء كانوا قد جهزوا لنا هدية نحملها معنا من العجوة، واصطحبنا – عائشة وأنا- جارنا ابوليلي حتي محطة الأتوبيس في طريقنا إلي القاهرة وقد حمل حاجياتنا علي ظهر حماره، وقام بنفسه برصها في المكان المخصص لها في باطن الأتوبيس ولم يفارقنا حتي تحرك الأتوبيس ووقف يلوّح لنا.. في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل..