غيّرت القناة لأشاهد المسرحية علي قناة أخري، لكن زوجتي »سميحة» التي تشبه لبني عبد العزيز، صممت علي مشاهدة فيلم »الوسادة الخالية»، ابني الأصغر يريد مشاهدة المصارعة، الكبير ارتدي ملابسه وأراد الخروج للسهر مع أصحابه. منعت ابني الكبير من النزول، طلبت منه تغيير ملابس الخروج وأن يجلس معنا، أشاح بيده، ركل الهواء، تشاجر مع ناس غير موجودين، ورفض أن يغيِّر ملابس الخروج. ألقي بجسمه في حضن الكرسي، وضع سماعة الموبايل في أذنه، عقد ذراعيه علي صدره، وأخذ في هز رأسه وكتفه علي إيقاعات مهرجان. شدّ عبدالوارث عسر قامته، خطي إليَّ في وقار وحكمة، أمسك كتفي، ولم يتوقف عن نصائحه، محاولا إقناعي بأن الحب الأول وهم سأنساه مع مرور الزمن، وأن الحب سيأتي بعد الزواج. أنظر إلي زوجتي، ولا أري بيننا غير الأولاد وبصمة الزمن. شخطت في الابن الأكبر: اخلع السماعة من أذنك وارحم دماغك نزع السماعة في تبرم، دسها في جيب قميصه، عقد ذراعيه علي صدره وهو ينفخ.. نظر إلي التليفزيون ثم التفت إليَّ وقد لمعت عيناه. باغتني سائلاً: ما رأيك في الحب الأول، صحيح هو لا ينسي؟ حاولت الابتسامة، حاولت وفشلت في مواجهة البسمة الساخرة التي تشق لي نفقا... قزقز لباً لا أريد لباً خذ سوداني ثبت نظره علي وجهي، يده تروح إلي الصحن الموضوع علي ترابيزة الصالون، تعود إلي فمه بحبات اللب والسوداني في آلية دون أن تغادر نظراته وجهي. بابا.. بابا (لم تجب...).. من أول حب في حياتك؟ لماذا أنت شاغل نفسك بهذا الموضوع؟ لأننّي غير مؤمن بكلامكم القديم هذا. عنك ما اتهببت. كان قاعدا في الكرسي المقابل لي، وبجانبه أخوه الصغير، يلعب في الموبايل، وأخوه الأصغر يجلس بجواري علي الكنبة لا يفعل شيئا، ويرقب حديثنا ببلاهة. أبو تمام قال في ذلك شعرا: نقل فؤادك حيث شئت من الهوي ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتي وحنينه أبداً لأول منزل مصمصت زوجتي شفتيها وقالت: الشعر نقح عليه وأنت كم مرة اتنقلت.. أقصد أحببت؟ كانت المسرحية الكوميدية في التليفزيون سخيفة، وحبات اللب والسوداني أصبحت قشوراً تفترش المنضدة أيوجد ابن يسأل أباه هذا السؤال! ضحك وانتشي، هز رأسه في زهو ماكر : صعب.. صعب عليك..ها هاااه، عندك اختيارات.. لكن بسرعة.. لا تفكر: أحببت ثلاث، ولا خمس، ولا سبع مرات؟ تجاهلت حديثه وحاولت متابعة المسرحية، لكنه ألحّ: ممكن تأخذ؛ فرصة أخري، نستبدل السؤال لو تحب بسؤال غيره: من أول حب في حياتك؟ ثم أردف وهو يضحك منتشيا، وهو يجول بنظره علي الجماهير المتحلقة حولنا: جاوب صح، قل الحقيقة. لا تقل أبو إمام قال.. ولا أبو الليف يقول. أبو تمام يا أبا جهل. خفض رأسه وربت عليها بيده علامة الشكر والرضي: مقبولة منك يا حاج. المهم الإجابة. علي فكرة، ممكن تستعين بصديق، ههههاااه. ابتسمت وتناولت كوب عصير الفراولة؛ الذي صار طعمه كعصير الطماطم. كان النور هادئا، الستائر مسدلة، الفاصل الإعلاني مستمر، وزوجتي تقرض أظفارها بأسنانها. خرجت إلي البلكونة أشعلت سيجارة، وعندما دخلت كان صلاح يسأل الدكتور متلهفا عن صحة زوجته. وقتك انتهي مد يده بالريموت، أخفض صوت التليفزيون، ترجل عن كرسيه، غاب بالداخل ثم عاد وقد ضبط ملابس الخروج، وتسريحة شعره، تحدث بجدية وكأنه ذاهب إلي مهمة رسمية. أنا نازل أقضي مع أصحابي بعض الوقت. قالها من باب العلم بالشيء، كان وجهه ضاحكا بشوشا، ينبض بالثقة والمرح، ثقة في أن أحدا لن يمنعه. نظرة خاطفة ورفع يده، أشار لي بسبابته المحذرة قائلا: عطلتني. ثم فتح الباب وخرج. أمسك الولد الأصغر بالريموت وغير إلي قناة المصارعة، بينما زوجتي ترقب باهتمام وجهي المحتقن، وتنتظر الإجابة.