لست أعرف إن كنت أفصحت واعترفت من قبل هنا للقارئ الكريم أنني أحب شهر »يناير»، هذا الدافئ الحنون رغم أيامه الباردة جدا.. هذا الشهر المضيء رغم كثرة ضبابه، والذي ما أن يحل في مطلع كل عام جديد طاويا عاما تسرب من عمرنا، حتي يفتح الباب لآمال وأحلام حلوة قد لا تتحقق، غير أن »يناير» ليس مسئولا، وإنما غالبا العيب فينا نحن وليس في الزمن قطعا. كان يكفي »يناير» لكي أحبه أن أبي رحمة الله عليه وزعيم الأمة الخالد الفقير أبو الفقراء جمال عبد الناصر كليهما ولدا في يوم من أيامه الرائعة، غير أنه شهر يفيض دائما بالثراء والكرم فأهدانا سجلا حافلا ثمينا من ذكريات ملاحم وحادثات فخر وعز تستعصي علي النسيان وستبقي محفورة في ضمير الوطن إلي أبد الآبدين.. يعني مثلا، في يوم 25 يناير سنة 1952 صنع نفر من أبناء مصر لوحة بطولية زاهية ومعجزة تضج بالبسالة والجسارة والطهارة والشرف الرفيع، وهو شرف ليس لهذا الوطن فحسب ولكنه شرف للإنسان والإنسانية جمعاء، ففي ذاك اليوم البعيد أبت نفس بضع عشرات من جدودنا جنود وضباط الشرطة في مدينة الإسماعيلية أن يستسلموا ويسلموا مبني المحافظة إلي قوة غاشمة من جيش الاحتلال البريطاني الذي كان آنذاك جاثما علي صدر الوطن، ورغم الاختلال الفادح والرهيب في العدد والعتاد بينهم وبين قوات الغزاة، صمدوا وقاتلوا واجترحوا آيات معجزات من البطولة والتضحية وبقوا يقاومون حتي سقط أغلبهم بين شهيد وجريح ومن ثم سطروا بدمائهم الزكية وأرواحهم الطاهرة واحدة من أعظم الصفحات في كتاب كفاح المصريين من أجل الفوز بالحرية والكرامة. ويشاء القدر أن يشهد هذا اليوم نفسه (25 يناير) بعد 59 عاما انفجارا ثوريا عارما وهائلا لا يخلو من دراما تاريخية نادرة ومثيرة جدا ولكنها ليست غريبة علي المصريين، ففي ذكري حادثة البطولة الوطنية الخالدة التي سجلها رجال الشرطة انطلقت أحداث ثورة كان واحد من أقوي عناوينها وأهم أسبابها هذا الظلم الفاحش الذي تعرض له أحفاد أبطال الإسماعيلية علي يد نظام تعفن من فرط فساده وطول استبداده وتوسله بالقهر الأمني وحده لضمان بقائه واستمراره وحماية مصالح قطعان لصوص ونشالين اخترعهم من العدم وجعلهم سببا لكل هذا البؤس والتخلف والعدم العمومي الذي ضرب المجتمع بقسوة ونهش في قواه الحية وأحشائه العميقة علي مدي أكثر من ثلاثة عقود متصلة. ومع ذلك، فبين هذين التاريخين المتوحدين في رقم الأيام (25) لم يبخل »يناير» علينا بهداياه القيمة، ونادرا جدا أن مر حلوه الرقيق المنتظم كل عام من دون أن يتحفنا بأحداث وانتفاضات سوف تبقي تزين تاريخنا الحديث كله، ربما أعظمها عند جيل العبد لله انتفاضة الشعب في 18 و19 يناير 1977، التي نستنشق اليوم عبق ذكراها العطرة الثانية والأربعين. وأخيرا، فإن يناير لم يشأ أن يكتفي بما منحني شخصيا ومنح الوطن كذلك من حوادث وأحداث متفوقة في العظمة، لهذا أصر أن يسجل علي صفحات أيامه تاريخا مفرحا جديدا عندما شهد قبل خمس سنوات، إعلان »لجنة الخمسين» المكلفة آنذاك بكتابة الدستور، إنهاء مهمتها وصياغة دستور مصر الجديدة التي لطالما حلمنا بها وطنا يزهو بالحرية والديموقراطية والعدالة والتقدم علي كل صعيد، إذ تألقت بين دفتي هذا الدستور، الحصاد الثمين لكل يناير عظيم عَبر أزماننا الحديثة والمعاصرة، ابتداء من »يناير عبد الناصر» إلي »يناير الثورة» التي خطفها الأشرار واستعادها المصريون في 30 يونيو.. وكل عام وأنتم بخير.