والنحت الذي كان مصمتا وأصبح الآن تملؤه الفراغات، بل قد يترك مفتوحا بفضل مهارة العاملين في المعادن، قد تغيّر كما تَغَيّر المعمار . وكلاهما الآن أي النحت والمعمار يواصلان الانفتاح وينميانه، فالمباني محوطة مغلقة لكن خارجها من زجاج لكي يلعب الفراغ ألاعيبه داخلها مع نفسه مخلفاً خفة قد تطيح بها الرياح، إلا أن المباني في ظاهرها النحيف قوية قوة تضمن بقاءها في أمكنتها . حقاً لم ينقطع تطلع المعماريين إلي تأثير الخفة، وهذا شيء حاصل في كل فن . لأن الثقل وصفٌ لا يُعْجب به عاقل، وأي مبني يزن لو وزن أطنانا ولكنا لا نلتفت إلي ذلك، بل نتصور بحكم ما ألفناه أن الطوب والحجارة خفيفة علي الأرض لا تثقل كاهلها .. مثل ذلك كان في النحت الكلاسيكي من أيام الإغريق إلي اليوم . جاذبية النحت وجماله في وقفته ورشاقته وإدارته للفكرة خلال الرخام . وذلك أيضاً في المعمار الكلاسيكي فالبارتنون ذو كتلة لكن ليس له ثقلٌ ولا وزن . كالسفينة التي قد تنساب عائمة ولكنها لا تفعل . نجد دائماً في الصين واليابان تلك الأسقف الملتوية المدببة التي تبدو كأنها توشك في هذه اللحظة أن تطير .. فثورة الانفتاح مجرد إعادة تقرير لشيء فهمه الناس من زمن بعيد طوي النسيان بعض أسراره . التجريد موجود في جميع الفنون .. لا يوجد فن خلا من التجريد .. فهو الآن أيضا إعادة تقرير لشيء كان دائما مسلماً بصحته مهما قل اعتراف المذاهب الفنية به نتيجة فقدها الصلة بالواقع . فالتصوير العظيم والموسيقي العظيمة والشعر العظيم والمعمار العظيم ومعمار المناظر العظيم لم تكن قط بعيدة عن التجريد، كما لم تكن قط في إسار الفهم الناقص لما نقصده ونعنيه حين نقول إن الفن نوع من المحاكاة . هو محاكاة لكن محاكاة ماذا ؟ محاكاة الجواهر لا محاكاة الأعراض .. محاكاة الحقيقة التي يصعب رؤيتها .. الجمال الذي هو الشيء الأساسي .. الأشكال التي لن تتغير والألوان التي لن تبهت . وإذا كان مصورو الماضي العظماء مع إدراكهم لذلك قد حاكوا الطبيعة، فإنهم لم يحاكوها بغباء . لقد حاكوها بمجهود هائل يتجه نحو الحقائق المستترة تحت الأشباه والشُبه، فلم يكونوا من هذه الناحية يحاكون إطلاقا، بل كانوا يستخرجون الجواهر ويردون المظاهر إلي الأفكار التي وراءها .. كانوا يجردون الحقيقة من الأوعية التي تحتويها، لكنهم لم يقولوا إنهم يفعلون ذلك، بل قالوا إنهم حاكوا الطبيعة .. وحينما أخذهم بقولهم المصورون المحرومون من الإلهام أو القتر علي رزقهم منه كانت النتيجة مخيفة .. انعدام الطعم والمهارة العادية والتسطيح . فكان العلاج البطولي لذلك هو محاربة المحاكاة والتمثيل بهذا المعني، واختصار الطريق بالالتجاء رأسا إلي التجريد .. وهذا أيضا له مواضع ضعفه فيما عدا عظماء الثوار إذ يصحبه فقد الاتصال بالأرض الذي بدونه لا يمكن أن يوجد فن . فالتصوير التجريدي في أعلاه حيث لا قيمة لأدناه محاكاة للطبيعة في أعلاها .. فهو يشبه الطبيعة دائما من حيث إن الطبيعة ذكية وقوية، وبهذا يقنعنا التصوير التجريدي .. برغم أنه ينفض يده من الخصوصيات التي ألفنا أن ننبهر ونتعلق بها وليس علينا في ذلك حرج . إن عالما بلا فن أسوأ من عالم ليس فيه ما هو قابل للرؤية أوللسمع أوللوصف أوللمس . إنه عالم فاقد للبعد الزمني .. عالم لا يستطيع العقل البشري أن يتذكره . فالذاكرة البشرية فريدة في قدرتها لا علي الاستعادة فحسب، بل علي استخدام الماضي وتطبيقه ثم علي إعادة خلقه وإبداعه بحيث يصبح جزءاً من اللحظة الحاضرة، وهذا أشبه بالأبدية من أي شيء آخر يمكن أن نلقاه ونقابله، ويدخل في نطاقه خبرتنا . فالذاكرة البشرية هي أصل الفن عند البشر . ولم تفارق الإغريق الحكمة حين جعلوا الذاكرة إمّا لآلهة الفنون » Muses » كما قال سير توماس براون .. فذاكرة الآدمي شيء عجيب وهي أغني مقتنياته ليس فقط لأنها مصدر لجميع فنوننا، بل لأنها سجلها أيضا تختزنها في عقل الناظر والسامع .. فالفنان الذي لأشعاره أو تصاويره أو أفكاره الموسيقية قوة عظيمة، صاحب ذاكرة دائما طوع مشيئته، تقدم له في أي لحظة ما يحتاج إليه من تفصيلات وتذكره بالمعارف التي أحرزها .. فهولا يسيء تمثل الأشياء ولا يتمثلها علي غير ما هي عليه . والجنس البشري نفسه يمكن أن يوصف بأنه فنان .. إذ لديه أساطيره التي يبقيها حيّة، وحكاياته التي هي حقيقية جداً، بحيث لا يمكن أن تكون قد حدثت . هناك شيء كذاكرة الشعب، وهي قد تكون خزانة لكل أفكارنا ومشاعرنا وحارساً يحافظ علي ما لدينا من الحكمة . فالحكاية التي لا يمكن تذكرها، والأغنية التي تنطفيء وتختفي من العقل، والبطل الذي ذيلت منا اسمه، والجملة التي تصورنا أننا لن ننساها ولكننا فعلا نسيناها . هذه أعمال فنية لا بد فيها عيب أساسي . لكن ثمة غيرها مما لا نستطيع أن ننساه حتي لو حاولنا . وهي ما نعيشه في رفقة الأصدقاء .. هي ما يتذكره الأصدقاء أيضا . ولعل المبرر النهائي للفن هوالسرور المزدوج الذي يمنحنا إياه .. هذا السرور الحاصل من تذكر الأشياء العظيمة مع الآخرين الذين يحوزونها معنا وبنفس الكيفية . وعدد هذه الأشياء محدود . أعظم الأعمال الفنية البشرية محدودة العدد . وروائع الفن لا يمكن أن تكون زائدة الكثرة، وإلا لم تكن كذلك . وما لدينا منها إن يكن عديدا فليس فينا من يستطيع أن يدعي أنه أعطي كلا منها حقه أو يدعي أنه يحيط علماً بما لم يوجد منها بعد . وآلة الذاكرة هي التي تقرر ما الذي يكتب له البقاء علي جوانح الزمن من هذه الأعمال .. سواء ما هوموجود منها الآن أوما سيوجد في المستقبل . خواطر ملحة ما إن فرغت من ترجمة هذا البحث الضافي المكتوب عن عالم الفنون، ومن سنوات طويلة، بدليل دائرة المعارف البريطانية، واهتمام هؤلاء بالفنون كرافد مهم من روافد الحضارة حتي ألم بخاطري الجهود المضنية التي نبذلها ويبذلها أهل العلم الديني، لدرء التهجم الضرير عندنا علي الفنون من نحت ورسم وتصوير وموسيقي، بدعوي أن هذه الفنون الرفيعة تخالف الإسلام . تصديت شخصيًّا لهذا النظر الأحول تصديت له في كتابي » الإسلام يا ناس »، وتعرضت باستفاضة لهذه المفاهيم المغلوطة، ولم تكن عدتي مقصودة علي العقل والمنطق فقط، وإنما امتدت إلي القراءة الصحيحة للإسلام، وإلي الفتاوي التي صدرت عن الأستاذ الإمام محمد عبده، وعن أئمة الجامع الأزهر كالشيخ جاد الحق علي المظنون خطأً أنه من المتجمدين، ودار الإفتاء . الفاصل بين النحت والتماثيل واللوحات والصور، وبين الأصنام والأوثان والأنصاب وما شابهها، أن هذه الأخيرة » وثنية » تنطوي علي كفر وإشراك بالله، ومن ثم لا تمتد إلي النحت في ذاته أو التماثيل واللوحات والصور إذا كان قوامها الفن وبرئت من آفة الشرك . وبهذا الفهم الصائب صدرت فتوي في مايو عام 1980 من الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي، وأخري حديثة عام 2010 من مجمع البحوث الإسلامية في جلسة اشتركت فيها . أما الموسيقي، فهي ألحان السماء، وأنغام الكون، نسمعها في صوت البلابل والعنادل، وفي زقزقة العصافير، وهديل الحمام، ودعاء الكروان، وغناء الشحرور والزرياب . هذه الطيور شدوها موسيقي، وغناؤها ألحان، ومحاكاتها في إبداعات البشر لا حرمانية فيها إلاَّ إذا اتجهت للخلاعة والمجون . فالعيب إنما يكون في الأداء، كالكلمة والقلم والأداة إذا أُسيء استخدامها .. لا تحمل في ذاتها نكيرًا، فإن استخدمت في الخير والصواب فهي خير، وإن حادت يكون العيب في استعمالها السيئ وليس فيها . وفي هذا المعني صدرت فتوي دار الإفتاء سنة 2011، فضلاً عن المستخلص من فتوي الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي، والدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية . من المؤسف أننا بدلاً من أن نتقدم إلي هذه المعاني الرفيعة التي أقرها صحيح الإسلام، ننشغل بالرد علي الدعوات الجهولة التي تخلط بلا فهم ولا معرفة، وتنسب إلي الإسلام ما ليس فيه، لتحرمنا من الجمال والكمال، وهما جوهر الدين الصحيح.