(هذا ما قدرناه..، وهذا ما أملته .. الحيطة موتا ستموت إما قهراً إما إذعاناً إما سعياً أو.... نفياً في ملكوت التيه فاختر لك ما يحلو.. اختر لك درباً لا تسألنا .. مرحمةً، إرجاءً أو...حتي حق القربي) . هذا ما كتبه شعراً الشاعر محمد أبو دومة في قصيدته »من وريقات زمن أبي ذر الغفاريّ..حوارية السيف والعنق»، محمد أبو دومة الشاعر الذي كان يملأ فضاء أمسيات معرض القاهرة الدولي للكتاب بإلقائه المتفرد، والذي رحل عنّا مؤخراً، دون أن يعلم أو يتابع أحدٌ محنته المرضية، وترك لنا تراثاً شعريا كبيراً وكثيرا، فمنذ أن أصدر ديوانه الأول »المآذن الواقعة علي جبال الحزن» عام 1978، وهو يمسك بخيط شعري متين وعصّي _جعله سهلاً_ ، وأصدر بعد هذا الديوان، خمسة دواوين أخري، كل ديوان يأتي تطويرا للذي سبقه، فصدر له علي التوالي : »السفر في أنهار الظم 1980، الوقوف علي حد السكين 1983، أتباعد أوراد الجوي 1990، الذي قتلته الصبابة والبلاد 1998»، وغير ذلك من إصدارات نثرية وترجمات عن اللغة المجرية والفارسية، حيث كان يتقنهما بامتياز. ربما تكون أشكال الموت التي طرحها أبو دومة في المقطع الذي اقتبسناه، هاجسا يراود الشاعر نفسه، ولكنه يرسله من خلال أبي ذر الغفاري، وأبو ذرّ الغفاري كان ملهما لكثير من الشعراء قبل وبعد أبي دومة، وعندما يتمثّل أبو دومة الشخصية التراثية، يحاول أن يطرح ما يشغله هو، والذي يعتقد أنه سيحدث له، ومن ثم نسأل: أي موت قد داهم أبادومة؟. لا شكّ أن محمد أبو دومة، كان يعيش بعضا من العزلة البغيضة في الفترة الأخيرة من حياته، وربما كانت حياته التي انقسمت بين رواج واسع وشامل وكبير كان قد تحقق له في الأعوام التي كان يدير ويقدّم فيها أمسيات الشعر الكبيرة في معرض الكتاب، أثناء توليّ د. سمير سرحان رئاسة الهيئة العامة للكتاب، وذلك لعدة سنوات متتالية، وكل من كان يحضر تلك الأمسيات، سيدرك علي الفور قدرة »أبو دومة» علي إبهار الحاضرين عبر إلقائه المتفرد، وتمكنه من اللغة، وقدرته التمثيلية علي المنصة، وعلينا أن نعترف بأن ضعفا ما قد أصاب تلك الأمسيات بعد إزاحة »أبو دومة» إلي الأبد. وأظن أن الشاعر الراحل عاش سلسلة من الإحباطات، ودفعته تلك الإحباطات إلي صراعات معلنة وخفية لم تكن مستترة علي كل من له علاقة به، وكان يشعر دوما بعدة مظالم تحيط به، وأن جميع من كان يطلبون ودّه، هجروه تماما، وشاركوا في غبنه، ويشهد زملائي في لجنة الشعر، أنه كان متذمرا بشكل دائم، وكان يشعر أن هناك من يترصده، أو يستبعده دوما عن المشاركة في الأمسيات الشعرية، أو الندوات النقدية، أو إدارتها، وهذا لم يكن صحيحا علي الإطلاق، ولكن الرواج الذي عاشه أبو دومة علي مدي سنوات عديدة، ومنحه سلطة ما، ثم انحسر هذا الرواج، ليصبح مجرد عضو في لجنة الشعر، جعله يشعر بهذا الاستبعاد، وربما هذا الشعور، ينتاب كل من كان صاحب سلطة، ثم تركها أو تركته. كان محمد أبو دومة غاضبا دوما، رغم أنه الشاعر الذي لا يشبهه أحد في ما قدمه، رغم أن فلاسفة النقد الذين حاروا في تصنيفا إلي أي جيل ينتمي؟، مثله مثل أحمد عنتر مصطفي، وحسن النجار، ومفرح كريم، وغيرهم، مع تفاوت الطاقات وأشكال العطاء المتنوعة، هؤلاء جاءوا بين جيلي الستينات والسبعينات، وظلّوا شعراءً أفراداً تحت مظلّاتهم الخاصة، كل شاعر له نكهته النوعية، والتي أثمرت تجارب ذات تقنيات كثيرة وفريدة، لم يلتفت لها النقاد المنشغلون بالشعراء الذين علا الاهتمام العام بهم وبتجاربهم لأسباب تبدو كثيراً غامضة، وربما جاء انشغال بعض هؤلاء النقاد بالشعراء السائدين مزيفا ونوعا من ركوب الموجة العالية والرابحة أيضا، ولكل حادثة حديث. لماذا كان أبو دومة لا يشبهه أحد؟، ربما تحتاج الإجابة عن هذا السؤال دراسة مستفيضة يعكف عليها ناقد يستطيع أن يفكّ شفرات شعر أبي دومة، وربما أكثر من ناقد، لأن التقاطع الذي أحدثته تجربة »أبو دومة الشعرية»، بين روح التراث، وروح العصر الحديث، تحتاج إلي أكثر من درس نقدي، وعلينا أن نتأمل بعض مقاطع من قصائده التي تثبت هذا التقاطع بحدة واضحة، حدة لها صوت وجرس وإيقاع، ففي قصيدته »من تجليات السفر والمجئ.. إلي حضرة المحبوب» يقول: (غارق في العشق..منجذب لمحبوبي بخيط القلب منسلب بمدّ العين موثوق بهدب جلالة الإشراق.. منسلخ عن المحسوس والملموس أطفو فوق دائرة السلوك أذوب .. لا أدري حدود الحدّ .. حتي يرجع الإيقاظ تكويني فيبدأ من جديد مدرج التقريب أصبح مثلما أمسيت مبتليا بصهد الوجد .. محترقا بلذته إلي حد التبخر .. آه من هول الصبابة ..(يامن كابد الأشواق) ..آه ..آه من عنف التحير ( يامن جنّ بين الصد والترحيب).. فانطلقت به الأرض الشتيتة آه .. آه من معشوقة شاخت خطا الأزمان خلف شبابها الأزلي أقلق سرها العشاق .. هاموا ثم هاموا .. ثم في فناء فيوضه سكروا بكأس اللهفة الملآنة اغتسلوا بخمرتها فصاروا بعض أطياف تحملق في عيون الخوف في درب الوصول الصعب..). ولا بد أن نتوقف عند هذا القدر الذي اقتبسناه، رغم أن المقطع لم ينته عند هذا الحد، فالشاعر الذي يستكنه مفردات التجربة الصوفية في بعض من التراث، مستخدما المفردات والمعاني والتراكيب والمصطلحات التي ترددت في تطوحات البسطامي، وشروحات الشعراني علي سبيل المثال، ولكنه أيضا يبني قصيدته علي طريقة »القصيدة المدورة»، والتي من تقنياتها أنها متجددة ومتواصلة في كل مقاطعة، وهناك من يستخف، أو كان يستخف بتلك التجارب، فيستلّ من جرابه النقدي تيمة الإسقاط، وهذه التيمة هي أسهل أسلحة النقد الفاسدة، والتي فسّرت وشرحت وصالت وجالت وقالت بأن القصائد التي كتبها الشعراء الستينيون، والتي استدعي فيها هؤلاء الشعراء شخصيات تراثية، كانت كلها إسقاطات علي الواقع السياسي والاجتماعي المعاصر، وهذا ماحدث _للأسف_ وراج عن أمل دنقل، ولم يجهد نقاد »الإسقاط» أنفسهم، أو آلاتهم النقدية الجاهزة، في محاولة قراءة القصائد ذاتها علي أنها رؤية للتراث نفسه، وربما كانت تلك الرؤية احتجاجا علي تفصيلة ما في التراث، أو نوعا من إعلاء شأن تفصيلة أخري فيه. وهذا ما تنطوي عليه تجربة الشاعر والمبدع محمد أبو دومة، فالتراث المدرج أو المستدرج في القصائد، ما هو إلا محاولة لقراءته شعريا، وترويضه، وتشكيله، وتشعيره، دون حاجة لهذا الإسقاط الذي يضع النقاد له كتبا ومجلدات ضخمة دون أي فائدة، وهذا ما يمكن أن نعود إليه، ونعود لمن نري بأنهم أفسدوا قراءة الشعر، وربما أفسدوا كذلك الذائقة، ودفعوا كثيرا من الشعراء للاهتداء بما يحاولون تقعيده وتقنينه. رحمك الله يا أبادومة، فلولا قراءتي المتجددة بعد رحيلك، لما كنت سأخوض في مياه النقاد الملتبسة، ولكنني سأختم سطوري هذه باقتباس منك ولك: ل ثبت بشاهد فسق تلوّث بشاهد عدل .. تقصّي، فحار.. فشك، فمدّ يديه لمس وليس كما قيل بعثر بين المجالس طعناً وغلّاً.. وما هو .. حلم تشعوذ وما هو حدس..!! روث نبتنا في الزمان الرث كبرنا في مفاتنه.. تشامخنا رضعنا ماء جيفته، وأفرغناه حيث حيث وعاهدناه..، ألا نلتجي لحظيرة ما بخّرت باسمه نردد نطقه المخنوق، نلبس خزيه المرموق، نحمده، ونجترّه فكيف وأنت سليل شهوته، وصنو هواه نجئ فجاءة من حلقك السقطة تحرضنا .. علي سيماه..، كي نرتدّ.. أو ..نحنث ..تبدد حظنا في الإرث، تسرقنا من العلقةْ؟؟..).