علي بعد خطوات معدودات من وزارة الثقافة، تقع العمارة التي سكن فيها الكاتب الكبير الراحل إحسان عبد القدوس، الذي تمر ذكري مئوية ميلاده في هذه الأيام ( يناير 1919 – 13 يناير 1990)، وبهذه المناسبة استأذنت الكاتب الكبير محمد عبد القدوس في زيارة للشقة التي عاش فيها إحسان منذ أوائل الستينيات وحتي رحيله، في إطار اهتمامي برؤية مكتبات كبار المثقفين. محمد كان كريما، لاسيما أن من شهدت اتفاقنا واحدة من أنبل أبناء مؤسسة أخبار اليوم، وترتبط بعلاقات وثيقة وقوية مع أجيال مختلفة داخل المؤسسة، فقد كانت، قبل أن تنضم إلي أسرة تحرير »أخبار الأدب»، واحدة من فريق الكاتب الكبير مصطفي أمين، الذي استجاب لطلب والدها في الالتحاق بالمؤسسة، والدها في حد ذاته له قصص كثيرة لابد أن ترويها ابنته في يوم من الأيام، فهي قصص من تاريخ هذا الوطن، فهو مدير السجن الذي قضي فيه مصطفي أمين فترة، لكنه يتمتع بشخصية فريدة، حب قياداته له والمسجونين في آن واحد..من هنا لم يجد اللواء الراحل عبد الله عمارة أي حرج، أن تلتحق ابنته وزميلتي الكبري مرفت عمارة بمؤسسة أخبار اليوم، لذا اتفقنا نحن الثلاثة علي لقاء في بيت إحسان. بمجرد أن دخلت مرفت عمارة البيت، صمتت للحظات كأنها تسترجع أحداثا وقعت فيه، وقالت لزوجها الأستاذ عمر فريد، »فاكر الحفلة اللي حضرناها هنا.. يوم عيد ميلاد الأستاذ إحسان عبد القدوس»، فاستكمل محمد شريط الذكريات.. »فاكره مين اللي غنت»، بسرعة أجابت »لطيفة»، فاستطرد محمد : »كانت لسه في بداية مشوارها الفني في مصر»، من هذه التعليقات أيقنت أننا في حضرة إحسان عبد القدوس نفسه بذكرياته وضيوفه والأحداث التي شهدت عليها هذه الشقة، التي تركها محمد كما هي، لم يستبدل شيئا، فبدا الأمر كما لو أننا لسنا في شقة، بل في متحف، بكل ما تحمله الكلمة من معاني، لاسيما فلسفة إنشاء المتاحف، التي أقيمت للحفاظ علي تاريخ الأمم والأفراد، فالمتاحف هي خير شاهد علي حركة الشعوب والأوطان. هذا ما جاء في خاطري في اللحظات الأولي من تواجدي داخل هذه الشقة »المتحف»، إذ تستطيع بتأمل المقتنيات المتواجدة حولنا، أن ترسم المشهد الثقافي والسياسي والإبداعي لمصر لعقود طويلة، فنحن هنا أمام شخص أصبح بمقالاته وآرائه وعلاقاته جزءا من تاريخ وطنه، وتمكن بموهبته أن يسجل هذا التاريخ بكل ألوان التسجيل من كلمة وصورة، فمن خلال اللوحات والتماثيل التي احتفظ بها وتعود لمائة عام للوراء، تتمكن من قراءة مشاهد من الحركة الفنية المصرية بتنويعاتها المختلفة والثرية، وعندما تترك هذه اللوحات، وتنظر إلي »أثاث» المنزل، فيرشدك إلي تاريخ الأثاث، فهناك »كراسي» تعود إلي عام 1919، وأصبحت الآن جزءا من تاريخ العائلة، لأنها توارثتها عبر أجيال مختلفة، وتبقي قصة اقتنائها للمرة الأولي تدور علي ألسنة أصحاب البيت، فيروي لي محمد، أن هذه المنطقة من الشقة، اشتراها جده لأمه، لتكون ضمن »جهاز» خالته ، وعندما توفيت، حصلت أمه علي هذه الكراسي، لتكون ضمن مقتنياتهم، التي هي في حقيقتها ليست مادة جامدة، وانما شاهدة علي مسيرة عائلة، ذات شأن كبير في الساحة المصرية. لم يكن الأثاث والتماثيل هما ما أبهراني في هذا البيت، الذي أصبح برؤية إحسان عبد القدوس، أحد المصادر الأساسية للتعرف علي المفاتيح الأساسية للثقافة المصرية وتطورها، لاسيما تاريخ مساهمة المرأة في هذه الرحلة الطويلة، فأمه روز اليوسف التي لعبت أدوارا كبيرة في حياتنا الثقافية والفنية والصحفية، هي جزء أساسي من تكوين إحسان ووعيه، لذا لم أستغرب عندما وجدته حريصا علي وضع صورها في مراحلها السنية المختلفة، وكذلك الشهادة التي نالتها عام 1926 تقديرا لنجاحها في مباراة التمثيل التي تقيمها الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة الأشغال، ويفتخر ابنها وأحفادها بهذه المسيرة، وأن تكون جزءا ملهما لإحسان عبد القدوس، فقد وضع الجزء الأكبر من الصور والشهادات التي حصلت عليها روز اليوسف في حجرة مكتبه، كما لو كانت الشعلة التي يستمد منها إلهامه. علي صفحات أخبار الأدب في هذا العدد، تفاصيل هذه الزيارة بالكلمات، وبصور التقطتها، ليست مصورة فوتوغرافية موهوبة، بل واحدة من المؤرخات القادمات بقوة في الفترة القادمة، فزميلتي انتصار محمد، التي انتهت منذ سنوات من نيلها درجة الماجستير في التاريخ، وانتهت من تسجيل درجة الدكتوراه، هي التي صاحبتني لتلتقط برؤية المؤرخ وإحساسه ما يعبر عن قيمة بحجم ومكانة إحسان عبد القدوس.