مظاهرات باريس الجديدة التى ارتدت ثوب "السترات الصفراء" وطالت من وهج وكبرياء عاصمة النور، ورموزها احتجاجا على رفع أسعار الوقود وزيادة أعباء المعيشة، تبقى حقا مشهدا إنسانيا كبير فهل يمكنه أن يفجر موجة سينمائية فرنسية جديدة، يبرز فيها مخرجون انتفضوا لغضبهم بالإبداع، مثلما حدث من قبل فى مظاهرات الطلبة عام 1968. منذ خمسين عامًا، وبالتحديد في مايو 1968، اكتظت شوارع باريس بمظاهرات شبابية ضخمة غالبيتها طلاب الجامعات الفرنسية، انضم العمال لهذه الثورة الطلابية، وبعد أيام قليلة أضرب ما يقرب من عشرة ملايين عامل وعاملة في كافة أنحاء فرنسا، استمرت هذه الثورة الطلابية طوال ستة أسابيع، وانتهى إضراب العمال برفع الحد الأدنى من الأجور وتقليل سن المعاش، وإجبار أحد أقوى الرؤساء في التاريخ الفرنسي «الجنرال شارل ديجول» على عرض نفسه لانتخابات رئاسية مبكرة. كان ما يميز المظاهرات الفرنسية فى تلك الحقبة هي روحها الفلسفية والفنية. فبينما كانت دعوات رفض الحرب الأمريكية على فيتنام، والروح الثائرة ضد حكومات مستبدة هما المحرك الأساسي لغالبية هذه الثورات، كان الوضع في فرنسا مغايرًا، إذ مثلت الرغبة في إعلان الحب، التحرر من القيود الاجتماعية، ورفض سيطرة الدولة على الفن، محركًا لشباب باريس «الحالمين» كما يطيب للكثير تسميتهم. المثير للتأمل أن كل هذا قد بدأ بشرارة أطلقها مجموعة من السينمائيين الفرنسيين، كانت الحكاية عن ثورة حالمة ربما تكون قد فشلت على المستوى السياسي، إذ لم يطح الحالمون بحكومة ديجول المحافظة في النهاية، ولكنها نجحت كثورة اجتماعية بدلت فرنسا على المستوى الفكري لأجيال وأجيال. اليوم، تنتاب السينمائيين حالة صمت، وربما تأمل وحسرة على الخراب الذى طال عاصمة النور، وربما الهدوء الذى يسبق عاصفة من الإبداع قد ينال من الأزمة الاجتماعية والسياسية لفرنسا، إذ بات المشهد برمته تحت أنظار متعاطفة أحيانا وناقدة أحيانا أخرى ضد نموذج ماكرون الاجتماعى، ومنهم النجمة الفرنسية الكبيرة بريجيت باردو التى عبرت عن دعمها لحركة "السترات الصفراء" نشرت على حسابها على "تويتر"، صورة تجمعها بكلابها، حيث ترتدي "سترة صفراء"، مذيلة بعبارة: «معكم». بدوره، نشر الممثل الكوميدي فرانك ديبوسك، فيديو قصيراً على حسابه على فيسبوك، توجه فيه الى «الذين يعانون اليوم»، وقال لهم «إننا نتفهم كفنانين، أن هناك انزعاجا، ولست أدري ما الذي عليّ فعله، يجب علينا أن نفعل شيئاً، أن نفكر.. أحبكم". أما المغني ميشال بولناراف، فقد أعلن عبر مقابلة أخيرة له، دعمه «للسترات الصفراء»، واحترامه لقضيتهم . النجمة الأمريكية باميلا اندرسون قالت إنها تؤيّد تحرك "السترات الصفراء" الذي تظاهر في نهاية الأسبوع الماضى في فرنسا للسبت الثاني على التوالي، رفضاً لرفع الرسوم الضرائبية على المحروقات وضدّ تدني القدرة الشرائية لدى الفرنسيين. وفي سلسلة من التغريدات التي نشرتها عبر حسابها على تويتر قالت أندرسون "أحتقر العنف... ولكن ماذا يكون عنف هؤلاء (المتظاهرين) وحرق السيارات الفارهة مقارنة بالعنف الهيكلي للنخب الفرنسية والعالمية؟"، وتعتبر أندرسون إحدى النجمات القليلات، غير الفرنسيات، اللواتي أيّدن تحرك "السترات الصفراء". وكانت أندرسون، بحسب ما تقوله وكالة بلومبرج، على علاقة مع نجم كرة القدم الفرنسي، ولاعب نادي مارسيليا، عادل رامي، الذي ينحدر من أصول مغربية، وربما تمكن إحالة سبب تدخّلها في النقاش إلى ذلك. وتساءلت باميلا إذا ما كان بمقدور التقدميين في فرنسا، وفي العالم كله، استخدام هذه الطاقة لاستبدال (صورة) العنف بصور بناء مجتمعات عادلة ومتساوية". وترى أندرسون أن الأجواء المشحونة هي نتيجة للسياسة التي يتبعها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وال 99 بالمائة من الذين سئموا من اللامساواة، ليس فقط في فرنسا إنما في العالم كله. وكان بعض المشاهير الفرنسيين قد عبّروا عن احترامهم وتأييدهم لتحرك "السترات الصفراء" منهم نجم البوب ميشال بولناريف الذي عاش في الولاياتالمتحدةالأمريكية لسنوات. المراقبون من النجوم والمخرجون الذين لم يدلوا بشهاداتهم على الأزمة حتى اللحظة التى استدعت لحظات من الماضى حينما اندلعت ثورة السينمائيين، وبدأت شرارة الاحتجاجات ضد القيود التي تفرضها الدولة على الفن، الجامعات، المجتمع، والحياة بشكل عام. وحينما وصلت الأمور لذروتها احتلت جموع الطلاب ساحات جامعة باريس "المعروفة بالسوربون الآن"، وبدأت الاشتباكات بينهم من ناحية وشرطة الشغب الفرنسية من ناحية أخرى. كان الفنانين والسينمائيين عنصرًا فاعلاً وسط الأحداث، كانت الأجواء شبيهة بحكايات فيكتور هوجو في روايته الشهيرة «البؤساء». على أحد جانبي نهر «السين» شباب حالمون، فنانون ومثقفون. انتشرت شعارات «كل السلطة للخيال»، «الشاطئ أسفل أحجار الرصيف»، «الملل هو الثورة المضادة»، «افتح نوافذ قلبك»، «انقل رغباتك للواقع»، «كن واقعيًا واطلب المستحيل»، وغيرها على جدران شوارع باريس. وعلى الجانب الآخر قوات مكافحة الشغب بأزيائها الباهتة وخوذاتها القديمة. بدأ كل شيء حينما قررت حكومة شارل ديجول إزاحة «هنري لانجلو» من رئاسة «السينماتك الفرنسية» في فبراير 1968، وأن تدير الحكومة بشكل مباشر هذا المركز السينمائي. اندلعت ثورة السينمائيين، وعلى رأسهم مخرجو جيل الموجة الفرنسية الجديدة، «جان لوك جودار»، و«فرانسوا تروفو» ورفاقهم، ووصلت خطابات التأييد من كل فناني العالم، وفي مقدمتهم «شارلي شابلن» أحد أعظم صانعي السينما الصامتة في العشرينيات والثلاثينيات، و«ستانلي كوبريك» أحد أعظم صانعي سينما الستينيات والسبعينات عقب ذلك. وانفجر المخرج الفرنسي جان لوك جودار في وجه بعض صناع السينما أثناء فعاليات دورة عام 1968 من «مهرجان كان»، لم تكتمل فعاليات هذه الدورة في النهاية وأعلنت اللجنة المنظمة إلغاءها نتيجة انسحاب العديد من الأفلام احتجاجًا على عنف الشرطة وتضامنًا مع تظاهرات الطلاب والعمال، بينما تعذر عرض بقية الأفلام نتيجة اعتصام عدد من السينمائيين داخل قاعات العرض احتجاجًا على إقامة المهرجان في هذا العام. كانت «لجنة الدفاع عن السينماتك» وراء كل هذا، وهي اللجنة التي تشكلت عقب فبراير 68 وتحدث باسمها المخرجان الفرنسيان فرانسو تروفو، وجان لوك جودار، اثنان من أقطاب الموجة الفرنسية الجديدة. لم يكن إلغاء «مهرجان كان» مجرد حدث احتجاجي، ولكنه مثّل لجودار وتروفو رمزية كبيرة؛ رمزية نهاية الشكل التقليدي للسينما. وانتقل تروفو وجودار في البداية من عالم النقد السينمائي ككاتبين في مجلة كراسات السينما الفرنسية، إلى عالم الإخراج واستحداث نظرية سينما المؤلف، وقررا في بيان إعلان تشكيل موجتهما السينمائية الجديدة برفقة مجموعة من السينمائيين الفرنسيين أن «السينما قد أصبحت وسيلة جديدة للتعبير، وسيلة لها خصوصيتها تمامًا كما الرواية والرسم، وأن لها الحق في التعبير عن مشاعر وأفكار صناعها مهما بدا هذا التعبير مجردًا وبعيدًا عن الشكل التقليدي للسرد، واشتعال مظاهرات مايو 68 وجدا أخيرًا حدثًا اجتماعيًا ضخمًا يعبر عن كل أفكارهم الثائرة على الشكل التقليدي للفن والمجتمع". واليوم تشهد فرنسا حدثا اجتماعيا ضخما ، فهل يتعلم الأبناء من جودار ورفاقه وينتفضون ابداعا ومواقف حاسمة عندما هزت فرنسا أزمة اجتماعية تمس واقعهم ومستقبلهم، حالة الصمت الغريب حتى الآن من قبل السينمائيين تطرح تساؤلات عديدة ، فهل يعيد التاريخ نفسه ونرى السينمائيين والمبدعين الجدد يدلون بدلوهم، فشعار الثوررة الفرنسية "حرية .. إخاء .. مساواة " أصبح الشعار الرئيسى لمعظم الاضطرابات الأخرى فى التاريخ الحديث، ان آلام قوس النصر وشارع ريفولي وحديقة "تويلري" والشانزليزيه فى انتظار صوره تداوى الجراح.