هل يُعتبر الجمهور أكذوبة فنية؟ سؤال مُفخّخ يُجدّد جدلا قديما، استثارته بداخلي الصحفية الجزائرية الصديقة نادية بو حيرد، عندما أرسلت »فيديو» لأدونيس، وطلبتْ رأيي المتواضع فيما تضمنه من تصريحات نارية. أكد الشاعر الكبير أن أكبر أكذوبة فنية هي ذلك الشيء الذي يسمونه الجمهور، وقال إنه يقيس تدني الشاعر بقدر ما لديه من جمهور، وهي علاقة طردية من وجهة نظره، فكلما ارتفع عدد قرّاء المبدع زاد مستوي تدنيه! وعندما قاطعته المذيعة لتشير إلي الشعبية الكبيرة لنزار قباني رد أدونيس مؤكدا أن جماهير نزار كانت حجابا كبيرا، فهي لا تحب الجميل من شعره، بل المبتذل والعام. وعندما عادت المذيعة لسؤاله عن مدي انطباق كلامه علي محمود درويش، أوضح أن حديثه ينطبق علي كل الشعراء وعليه شخصيا، وكرر كلماته قائلا: »الجمهور لا يحب إلا المبتذل العام والسطحي». لا أعرف تحديدا تاريخ هذا التسجيل، غير أن وجهة النظر السابقة تمضي في نسق آراء الشاعر الكبير، التي نجحت علي مدار سنوات ماضية في شغلنا لفترة من الزمن، قبل أن تسرقنا منها قضايا حياتية تطغي علي كل شيء، خاصة الإبداع! عموما يبدو الرأي وجيها، خاصة إذا ما استحضرنا ذلك الحشد الذي ينجح كُتّاب »الظواهر» في اجتذابه عند مناقشة أو توقيع أحد كتبهم، لدرجة أن الطوابير تمتد أمام فعالياتهم بمعرض الكتاب، رغم أن الندوات الأخري تنتعش غالبا، إذا منحها بضعة أفراد فقط قُبلة الحياة! كان يمكن التعامل مع الزحام حول »المبدع الجماهيري» بوصفه ظاهرة إيجابية، لولا أن ما يقدمه هذا الكاتب لا يرقي في كثير من الأحوال لأن يكون أدبا، وأذكر أن المثقفين تداولوا قبل نحو ثلاثة أعوام فقرات من » عمل » منح صاحبه نجومية غير مسبوقة في المعرض، وكانت الفقرات لا ترتقي لمستوي موضوع تعبير يكتبه طالب في الصف الثالث الإعدادي. لكن ما ينطبق علي هؤلاء لا يمتد من وجهة نظري إلي قصائد نزار ودرويش، كنموذجين نجحا في الجمع بين القاريء المثقف والجمهور المتعطش لأشعار الحب، دون أن يبتعد عن شعرهما السياسي الذي أصبح محفوظا في وجدان الآلاف من »العاديين»، وهو أمر لم يجربه أدونيس نفسه، فقد ظلت كتاباته شعرا ونثرا تدور في فلك اهتمام مثقفي النخبة فقط، وهو اختياره منذ البداية بطبيعة الحال، فلا يمكن اتهامه بأن تعاليه علي الجمهور رد فعل طبيعي لانصراف الأخير عنه. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان الشاعر الكبير نفسه سببا في عزوف الكثيرين عن القراءة؟ بعد أن زايد بعض مبدعي مدرسته عليه، وكتبوا ما عجز القراء » العاديون » عن فهمه، وأحسوا أنهم أمام شعراء يتعاملون معهم من منطلق: »عليّ نحت القوافي من مقاطعها.. وما عليّ لهم أن تفهم البقر؟! ». في سياقات ضبابية كالتي نحياها ستظل الأسئلة أكثر حضورا بينما تغيب الإجابات، ووسط هذه المتاهة يتآكل جمهور الأدب حتي الاختفاء، لكنني لن أتباكي عليه بعد الآن، بعد أن علّمنا أدونيس أن ندرة القراء.. علامة جودة!