لوثيانو بيرنكسي قبل عدة أيام من انطلاق بطولة كأس العالم في نسختها الثانية بإيطاليا، اجتمع موسوليني بمدرب المنتخب الإيطالي فيتوريو بوتسو وقال له: »أنت المسؤول الوحيد عن النجاح، لكن ليكن الرب في عونك إذا انتهي الأمر بفشلك». وامتدّ تهديد »الدوتشي» كذلك إلي لاعبي الفريق: »إمّا الفوز أو الصّمت التام»، هكذا كان يحفزهم وهو يمرّر سبابته بعرض عنقه عند حنجرته، أثناء وليمة غداء جمعتهم لغرض مفترض هو تعزيز الصداقة! الحكاية يرويها الكاتب لوثيانو بيرنيكي في كتابه »أغرب الحكايات في تاريخ المونديال» الذي صدر عن »تنمية» قبل أيام، بترجمة لمحمد الفولي. وكما هو واضح من العنوان يسعي المؤلف لجمع الحكايات »الأغرب» في تاريخ تلك البطولة الطويل، لكن الملفت هو ذلك الربط المدهش بين اللعبة وبين عالم السياسة، وهو وحتي وإن كان غير مقصود في ذاته -رغم أنها الأكثر غرابة- فإنه يقدم الكثير من المعلومات الممتعة بالغة الدلالة، فمع كل تحديث يضاف أو رصد إحصائي لحدث ما، هناك عشرات القصص التي تروي تاريخ آخر موازي، تاريخ بطولي أحيانا ودموي في كثير من الأحيان، تاريخ تبدو معه كرة القدم كلعبة سياسية بامتياز، ولن يكون في ذلك أي مبالغة خاصة عندما نعرف أن الفرضيّة الأكثر شهرة بخصوص كرة القدم، في صورتها الحالية، تقول إنّ أول مباراة في التاريخ لعبت علي الأراضي الإنجليزيّة قبل خمسين عامًا من ميلاد المسيح عندما بدأت مجموعة من الجنود في ركل رأس جندي روماني لقي مصرعه في إحدي المعارك! نظريا أصبحت كرة القدم شيئا آخر-علي الأقل لم تعد تلعب بالرؤوس المقطوعة- تخلت عن تلك البداية الدموية، وأصبحت الآن رياضة وتجارة عابرة للقارات، لكن هذا التطور لم يحدث مرة واحدة، ولم تتخل كرة القدم عن تاريخها الدموي بسهولة بين ليلة وضحاها، فحتي تصل إلي شكلها الحالي خلفت ورائها مئات القصص التي تروي تاريخ طويل من الدم، كما أنها بين حين وآخر تستعيد بعضا من تاريخها الدموي المشين. كأس الدوتشي في تفسيره للقصة التي بدأنا بها هنا يقول المؤلف إن كأس العالم لم يكن بالنسبة إلي موسوليني مجرّد منافسة رياضيّة، بل كان فرصة مثالية لإظهار القوة الفاشيّة للعالم بأكمله. كان يجب أن يخضع كل شيء لتحقيق غرضه هذا، حتي إن الملاعب أعيدت تسميتها، ليصبح ملعب روما - المعروف اليوم باسم »الأوليمبيكو» – »ملعب الحزب الوطني الفاشي»، وهكذا أصبح ملعب كرة القدم مسرحا لشيء آخر مغاير تماما. لذا عجزت النسخة الأولي من كأس العالم بأوروبا - إيطاليا 1934- عن التحرر من المناخ السياسي والاجتماعي العجيب الذي كان يحيط بالقارة العجوز، يقول لوثيانو، فلم تنتظر القيادة السياسية حتي تحقق مسعاها بأقدام اللاعبين بل سعت من البداية للضغط علي »فيفا» من أجل التنظيم، واستخدمت بعد ذلك طرقا ملتوية حتي لا يتعثر ال»أتسوري» في طريقه نحو لقب المونديال. وبالفعل خدم تتويج إيطاليا باللقب القضيّة الفاشية كما خطط موسوليني، لكن ذلك لم يكن هينا، وكان علي حساب الجميع، فلاعبو المنتخب صاحب الضيافة تلقوا تهديدات بالقتل إن هم لم يتوّجوا باللقب، بل إنهم أجبروا علي الانضمام إلي الحزب القومي الفاشي، وكان هناك إلي جانب كأس »جول ريميه» الأب الروحي للبطولة، لقب إضافي للمنتخب الفائز هو »كأس الدوتشي». ولم ينل الضغط من اللاعبين وحدهم، فكتب تاريخ كرة القدم المنشورة في أمريكا الجنوبية والتي يشير إليها المؤلف تحدثت عن التحيّات »النازية» و»الفاشية» التي أدّاها منتخبا ألمانياوإيطاليا أثناء عزف نشيد البلدين الوطني قبل المباريات. تظهر الحكايات علي امتداد الكتاب المناخ المعتم الذي كان يهيمن علي أوروبا في تلك الأيام التي قرر فيها ستة عشر منتخبا - علي الرغم من كل شيء- التجمّع بهدف التنافس علي النسخة الثانية من كأس العالم لكرة القدم. تأصيل اللعبة السياسية يستمر المؤلف في رصد البدايات ويقول إنه إذا كان مونديال إيطاليا 1934 قد لعب وسط نزاعات سياسية مستجدّة، فإن نسخة فرنسا 1938 عانت حتي النخاع من إقامتها في »قاعة انتظر فيها الجميع اشتعال لهيب الحرب العالمية الثانية». حيث دارت الكرة قبل عام واحد فقط من اندلاع أعظم كارثة حربيّة في تاريخ البشريّة »بين الأسلاك الشائكة والبارود والدماء التي كانت تغلي من الكره والحقد» وكان أدولف هتلر قد قرر فجأة أنّ الحدود الألمانية لم تكن بعيدة بالصورة الكافية عن برلين، وفي الثالث عشر من مارس 1938 خطر له ضمّ النمسا إلي خريطة ألمانيا وتسبب هذا في ابتعاد المنتخب النمساوي عن المسابقة، علي الرغم من تأهله بعد تخطي لاتفيا. هنا يوقف المؤلف سيل الحكايات ليقول إن كتابه يحلل تاريخ المسابقة الرياضية، لكن ذلك لا يمنعه من القول إن غياب فريق ما عن بطولة رياضية مجرّد أمر هيّن بالقياس إلي التبعات الخطيرة التي خلفها ذلك النزاع الحربي المرعب. فلم يُدفع بمنتخب بديل لتعويض النمسا في البطولة، وهكذا صعدت السويد التي كانت القرعة قد أوقعتها في منافستها بشكل مباشر نحو ربع النهائي. وأشار منظمو الحدث بكل دبلوماسية في بيان مقتضب إلي أنه »في جدول المباريات الرّسمي ستصعد السويد للدور التالي لعدم حضور المنتخب النمساوي»، وذلك دون ذكر كلمة واحدة عن المأساة التي كانت تمر بها الدولة الأوروبية! ولم تكن النمسا هي البلد الوحيد الذي غاب عن البطولة نتيجة مشكلات سياسية خطيرة، فقد كانت إسبانيا غارقة منذ يوليو 1936 في حرب أهلية ضروس. وعلي الرغم من هذا سافر موفدان من شبه الجزيرة الإيبيريّة إلي باريس لحضور منافسات الكأس والمشاركة في كونجرس ال(فيفا)، لكن بالصيغة التالية: ممثل عن كل جانب من طرفي النّزاع! هزيمة تستحق الاحتفال تحت هذا العنوان يروي لوثيانو كيف عاد موسوليني للتدخل بأساليب إدارته شديدة الخصوصية في النسخة الثالثة من المونديال؛ حيث سخر موارد الدولة الإيطالية مجددا لصالح المنتخب، وفر للفريق طائرة خاصة ربما لأول مرة في تاريخ اللعبة، لكي يحظي اللاعبون بقدر أكبر من الراحة، لكنه عاد، من جهة ثانية، إلي تهديد كل عناصر الفريق بالقتل -بما فيهم المدرّب صاحب الشأن الكبير فيتوريو بوتسو- إذا لم يعودوا إلي روما وهم يحملون الكأس. وأرسل موسوليني تلغرافا إلي معسكر الفريق بباريس تضمّن ثلاث كلمات فقط »الفوز أو الموت». ولعب »الأتسوري» المباراة النهائية بتوتر شديد، ولم يتمكن الحارس المجري أنتال زابو من إخفاء ابتسامته واعترف لأحد الصحفيين بعد المباراة قائلا: »لم أشعر في حياتي بمثل هذا القدر من السّعادة بعد الخسارة، فبالأهداف الأربعة التي سجلوها في شباكي أنقذت حياة أحد عشر إنسانا». يعلق بيرنيكي: لقد كانت الحرب علي بعد خطوة ولم يكن لدي زابو أي شكوك في أن حياة البشر في تلك الفترة كانت رخيصة، وبعد نسخة فرنسا لم يُلعب المونديال طيلة اثني عشر عاما. وظلّت الأمور علي تلك الحال حتي بردت المدافع وانقشع دخان القنابل. حرمان من المشاركة وجه آخر من وجوه التأثير السياسي السلبي علي كرة القدم ظهر في حكاية النسخة الرابعة من المونديال، حيث كان يُفترض أن تُلعب تلك النسخة عام 1942 في ألمانيا، لكن الحرب العالمية الثانية أجبرت الجميع علي التوقف طيلة اثني عشر عاما. وحين عمّ السّلام، عقد »فيفا» أوّل اجتماع له في الخامس والعشرين من يوليو 1946 في لوكسمبورج. وهناك لم يقدّم أي موفد من موفدي الدّول الأوروبية، التي كانت لا تزال في مرحلة إعادة إعمار، ملف ترشح وطنه لاحتضان البطولة التي تقرّر أن تُلعب عام 1949. وبويع الترشح الوحيد الذي قدمته البرازيل، وكانت قد طالبت قبل الحرب بعودة البطولة إلي القارّة الأمريكية، وقوبل بترحاب مُطلق حتي إنه قبل دون أي اعتراض. وطلب البلد المضيف تأجيل البطولة عاما آخر لتأهيل الملاعب الموجودة بالفعل وتشييد آخر جديد هو ملعب ماراكانا التاريخي القائم حتي يومنا هذا. وفي ذاك الاجتماع تقرّر أيضا منح تكريم رفيع لأب المونديال الرّوحي، ذلك الرجل الذي ظل طيلة ربع قرن علي رأس »فيفا»، فأطلق علي الكأس الذهبية اسمُه وأصبح »كأس جول ريميه». في هذه النسخة رُفض طلب مشاركة كل من ألمانيا واليابان لاعتبارهما مسئولتين عن الحرب وتبعاتها المتوحشة. الاعتبارات السياسية كانت سببا في غياب آخر سبق ذلك بالتحديد في النسخة الثانية من كأس العالم التي أقيمت بإيطاليا، حيث غابت أوروجواي وإنجلترا، وقيل إنه كانت هناك أسباب عديدة برّرت غياب الفريق منها تطبيق مبدأ »العين بالعين» أمام هجران الإيطاليين »الأهوج» للنسخة الأولي من المسابقة، ومنها الخلاف القائم مع ديكتاتوريّة موسوليني، ومنها أنّ اللاعبين الذين تمكنوا قبلها بقليل من إزالة السّمعة السيئة عن مفهوم الاحتراف فضلوا المكوث في بلدهم واللعب في المباريات المحلية علي »اللعب من أجل الشرف» مع المنتخب »السّماوي». حرب كرة القدم تستمر الكرة في الدوران، ويستمر تدفق الحكايات في الكتاب، عن اللاعبين والحكام، التطور التليفزيوني، وحتي الكرة نفسها، لكن في يوليو 1969 تعود السياسة لتتصدر الواجهة من جديد، حين عاد قادة سياسيون وعسكريّون إلي استخدام كرة القدم لأهداف فاسدة. الحكاية كما يرويها لوثيانو تقول إن العلاقة بين هندوراس والسلفادور كانت متوترة وقائمة علي الشد والجذب لعدّة سنوات، حتي باتت أي مواجهة بينهما في التصفيات المؤهلة لمونديال المكسيك حُجة لإشعال نزاع مسلح. وبدأت »حرب كرة القدم» كما يصفها المؤلف تتشكل في الثامن من يونيو عندما فازت هندوراس في عاصمتها تيغوثيغالبا بهدف نظيف علي السلفادور. وبعد ذلك بأسبوع فازت السلفادور بثلاثة أهداف نظيفة. وشهدت هذه المباراة وقوع مجموعة من الحوادث في المدرجات بين جماهير المنتخبين. وضخمت وسائل الإعلام الهندوراسيّة ما حدث بطلب من الديكتاتور أوسبالدو لوبيث أوريانو الذي استغل الوضع ليضرب علي الوتر الحسّاس وهو الهجرة المستمرة للسلفادوريين الباحثين عن عمل علي الجانب الآخر من الحدود بسبب العداء بين الأمتين. وبدأ لوبيث أوريانو حملة قومية قويّة عبر وسائل الإعلام، وحين اشتعل ثقاب عداء الأجانب أمر بمصادرة أملاك السلفادوريين المقيمين في بلاده وإعادة توزيع أراضيهم وممتلكاتهم علي المزارعين المحليّين. وازداد الوضع توترا خاصة حين فازت السلفادور علي هندوراس بثلاثة أهداف مقابل اثنين في مباراة الإعادة الحاسمة التي لعبت في السابع والعشرين من يونيو بمكسيكو سيتي. وفي الرابع عشر من يوليو عبر الجيش السلفادوري الحدود للدفاع عن مواطنيه ووصل إلي أبواب تيغوثيغالبا، لكن تدخل منظمة الدول الأمريكيّة السريع جعل النّزاع المسلح لا يستمرّ سوي خمسة أيام، غير أن المعارك التي شهدتها تلك الفترة أسفرت عن حصيلة مؤسفة من القتلي هي أربعة آلاف شخص. وواصلت الكرة الدّوران، كما يحدث دومًا، وفي الفترة الممتدة بين سبتمبر وأكتوبر من العام نفسه أقصت السلفادور هايتي وتأهلت للعب في المونديال لأوّل مرّة في تاريخها. مقاطعة النسخ التالية خضعت أيضا للتوترات السياسية لكن بأشكال مختلفة، وربما أقل حدة، لكن وكما حدث في نسختي إيطاليا 1934 وفرنسا 1938، لم تتمكن كأس العالم من الانفصال عن الإطار السياسي المظلم. فقد لعبت كأس العالم 1978 في الأرجنتين »وسط أسوأ ديكتاتوريّة خضعت لها دولة بأمريكا الجنوبية، تلك لم تبخل بالدماء والعذاب من أجل غرض واحد: هو مكافحة المتمردين الشيوعيين». ومن الأمثلة المفزعة التي يرويها الكتاب أنّ أحد أكثر مراكز الاعتقال السرية وأكثرها دمويّة كان موجودا في كلية الميكانيكا التابعة للأسطول الأرجنتيني علي بعد بعض أمتار من إستاد المونومنتال، ملعب ريفر بليت الذي احتضن عددا من مباريات هذه النسخة وأبرزها النهائي. أثار هذا المشهد الاستياء في عدد من الدول الأوروبية التي طالبت بمقاطعة المونديال أمام هذه الديكتاتورية؛ ففي هولندا طالب الحزب العمالي المنتخب الوطني بعدم الاشتراك في البطولة، لكنّ الحكومة نفسها اعتبرت أنّ »المقاطعة لن تغير من انتهاك حقوق الإنسان في الأرجنتين»، وقالت: »يجب علينا أن نستغل بطولة العالم للتعريف بما يحدث في هذا البلد». وطالبت قيادات أخري في منظمات تدافع عن حقوق الإنسان بنقل المسابقة لتلعب في البرازيل. وعلي الرغم من أن منتخب »الطواحين» تقدّم في النهاية لخوض مبارياته، فإن هذا الأمر جاء في ظل غياب عدد من رموزه، ومنهم يوهان كرويف، نجم برشلونة. الكرة تفوز علي الحرب أحيانا التأثير السياسي لم يكن بالطبع علي الأحداث داخل الملعب فقط، لكنه أثر علي استمرار البطولة نفسها، حيث لعب مونديال فرنسا 1938 والعالم علي شفا الحرب العالمية الثانية، وفي الفترة الممتدة بين 1942 و 1946 عم هذا النزاع الحربي أوروبا بالكامل، وألقي بآثاره أيضا علي باقي القارّات، وهو ما أدي إلي توقف البطولة حتي عام 1950. في حقبة الأربعينيات فازت الحرب علي كرة القدم، لكن في 1982 عندما نظمت إسبانيا النسخة الثانية عشر من المونديال، تمكنت كرة القدم - أو ربمّا تجارة كرة القدم – كما يستدرك المؤلف، من فرض كلمتها علي الحرب. فلم يسبق مُطلقا أن شاركت دولتان في نزاع مسلح و مونديال في آن واحد.. وهي حكاية كبيرة أخري من حكايات الكتاب، ففي الثاني من أبريل عام 1982 قررت قيادات الديكتاتورية العسكريّة الأرجنتينية غزو جزر مالبيناس، وهي عبارة عن أرخبيل يقع علي بعد خمسمائة كيلومتر من باتاغونيا، وهي تُشكل منذ منتصف القرن التاسع عشر جزءا من الأراضي البريطانية في أعالي البحار. وكانت الأرجنتين – ولاتزال - تطالب بسيادتها علي هذه الجزر الاعتبار أنها تقع داخل منصتها البحرية القارية. ولم تقف المملكة المتحدة لبريطانيا العظمي مكتوفة الأيدي فأرسلت قوتها الحربية كلها نحو الأطلسي الجنوبي لاستعادة الأرخبيل. وتسبب هذا النزاع في مصرع أكثر من تسعمائة شخص وسقوط ألفي جريح، وامتد حتي الرابع عشر من يونيو، أي لمدة يوم بعد المباراة الافتتاحية التي تواجهت فيها الأرجنتين وبلجيكا في برشلونة، ولحسن الحظ لم تواجه الأرجنتين أثناء المسابقة أي من منتخبات المملكة المتحدة وانتهت الأمور بسلام.