بحكم التخصص لم أدرس مندل ولا قوانينه في الوراثة التي يدرسها المتخصصون في علوم البيولوجيا، لكنني تأثرت به ثقافياً كقس نمساوي قضي زمناً طويلاً من حياته في استكشاف القوانين الأساسية لعلم الوراثة، ثم مغادرته دنياناً عن عمر يناهز الستين عاماً دون أن يعلم أنه صار أباً لعلوم الوراثة وأن أبحاثه وقوانينه التي اكتشفها سوف ترسم الطريق للإنسانية لدراسة علم الجينات والكروموسومات. فبعد وفاته بأربع سنوات اكتشف راهبان مخطوطاته وأبحاثه التي سبق نشرها عن صفات وخصائص نبات البازلاء مستفيداً من سهولة تلقيحه ذاتياً، أعادوا دراستها ليكتشفوا أهميتها ولتصبح حتي اليوم علي الرغم من اختلاف التفسيرات المصدر الرئيسي لعلوم الوراثة والتهجين. جريجور يوهان مندل المولود أبوين فقيرين زاد بؤسه بفشله في الدراسة وإخفاقه التأهل للعمل كمدرس بعد رسوبه في الامتحان مرتين، ثم قراره الالتحاق بالدير وكأنه يهرب من الدنيا بما فيها. في ذلك الوقت لم يكن الدير محلاً للعبادة فقط، بل والدراسة أيضاً، ففيه وجد علماء ومتخصصين في مجالات شتي. انشغل مندل بأسباب التشابه والاختلاف بين الكائنات ونسلها، فعكف علي دراسة البازلاء التي كانت تزخر بها حديقة الدير ونشر أبحاثه إلا أن الضجيج الذي أثاره تشالز دارون بأبحاثه عن التطور انعكست سلبياً علي مندل، فلم يلتفت أحد إلي ما اكتشف ولا إلي ما يقول. وكأن إعلانه أباً للوراثه كان يستدعي عذاباته بتجاهل علمه واكتشافاته في حياته وموته حسرة، ثم تكريمه في مماته، تماماً كما اعتاد الشرق معاملة رجاله. كنت أقف في طابور انتظار بأحد محلات التسوق، بحلول دوري سلمت ما معي من مشتريات إلي الفتاة الجالسة خلف الخزينة. شعر أصفر يتحدي »الشعر الغجري المجنون» الذي تحدث عنه نزار قباني في قصيدته قارئة الفنجان. عينان زرقاوان تنافسان بحر فيروز الذي غنت له »شايف البحر شو كبير/ كِبر البحر بحبك». بشرة حليبية بيضاء. لا يفارق يدها منديل ورقي تضعه من حين لآخر علي أحد عينيها، تمسح دموعاً. أرجع خيالي السقيم دموعها لأسباب عاطفية، فراق، هجر، غضب مؤقت، فهكذا نحن خبراء ببواطن الأمور أكثر من أهلها. بعد لحظات، اندفعت دموعها مالحة كغمامة شتاء تنهمر قطراتها بسخاء. لا إرادياً، سحبت منديلين ورقيين. غطت عينيها بكفيها. استطال طابور الزبائن. أبدي أحدهم تذمراً، فأشارت إليه في عصبية من خلف دموعها ليتجه إلي الخزينة المقابلة. فيما حملقت بعينين شديدتي الاحمرار إلي جسمين زجاجيين صغيرين زرقاوين. رفعت رأسها وقد غاصت زرقة البحر من عينيها وما عادت أمواجه تعبث بالشعر الغجري المجنون. اعتذر المدير للزبائن ونادي بأعلي صوته علي أحد الموظفين كي يترك ما في يديه ويأتي للخزينة. جاء الرجل مُسرعاً، واتخذ مكانه ونظر نحوي معتذراً فراعتني زرقة عينيه، ونظرت لعيون العاملين من حولي وتساءلت بين نفسي ونفسي هل يشترط هذا المحل أن يعمل لديه ذوو العيون الزرقاء فقط، لبثت في حيرتي لبرهة قطعها علي صوت الموظف منبهاً في لطف »تحت أمرك»، تلفت يُمنة ويسارا وملت نحوه وسألته، عدسات ولا طبيعي؟.