فتحت رواية »إفلات الأصابع» لمحمد خير لإلقاء نظرة سريعة عليها، ففوجئت بأنني في الصفحة الأربعين منها في غمضة عين. بحر رمال إبداعي، علي ما يبدو». كان هذا ما كتبته علي صفحتي في الفيسبوك حين بدأت قراءة الرواية الصادرة مؤخراً عن دار الكتب خان، وما يعبر بالفعل عن إحساسي الأولي بها، إذ ثمة غموض آسر في صفحاتها الأولي يسحب القارئ بنعومة إلي عالمها وإيقاعها المتمهل، حتي وإن لم يلتقط (أي القارئ) للوهلة الأولي كل ملامحها، أو لم يفطن تماماً إلي الروابط بين فصولها وشخصياتها، إذ أن هذه الروابط مرجأة عمداً، ولا تتضح إلا تدريجياً. تتناص الرواية مع قصة الخضر والنبي موسي، لكنه تناص رهيف مراوغ. فكما في العلاقة بالقصة القرآنية، نجد أنفسنا أمام طرفين؛ بحر وسيف، أحدهما يعرف أكثر ودوافعه للرحلة كلها غير مصرح بها وخافية علي الطرف الآخر الباحث عن فهم ما يحدث والمندهش من معظم ما يمران به. في الرواية أيضاً يُقِدم بحر علي جريمة قتل مثلما قتل الخضر الغلام المولود لأبوين صالحين، لكن وللمفارقة، جريمة بحر تقرِّبه لشخصية موسي حين قتل شخصاً واضطر للهرب، أكثر مما تقربه من شخصية الخضر الذي تتواري الرحمة لديه خلف قناع يبدو للآخرين أقرب إلي القسوة. وكما لعب البحر دوراً محورياً في القصة القرآنية، نجده في الرواية مركز العالم، كما نكتشف قرب نهايتها أنه المحفز علي بدء الرحلة كلها من الأساس؛ فقد كانت العروسة الخشبية »سمنّوس» التي جلبها موج المد إلي تحت قدمي »بحر» في جلسته علي الشاطئ الأوروبي أشبه بعلامة عليه اتباعها: »أمسكت »سمنّوس» وتأملتها ومن خلفها كان الضوء الأحمر يصعد من الأفق وراء البحر، ونظرت إلي ما وراء الموجات الأولي وفي الأزرق رأيت شيئاً يتخبط في الماء، وسمعت الصوت الهادر لزورق بخاري من لنشات شرطة البحرية يتجه نحوه، ولم أستطع من مكاني أن أري كنه الجسم الذي رفعوه، لكن سرعان ما اتضح أن ذلك الجسم أياً كان، كان مجرد بداية، فقد امتلأ الماء بالأجساد فجأة، صارت تصعد من داخله إلي أعلاه كالفقاقيع، وصار المد يجلبها إلي الشاطئ رويداً رويداً، وإن لم تكن العروسة الخشبية قد أكدت لي شيئاً، فقد ملأتني رائحة أكدت لي كل شيء، وأعادتني الألوان المتناثرة إلي ما كنت قد نسيته، ومنحتني الإشارة الأولي لعودتي هذه، لرحلتي إلي هنا». يمكن الاستطراد في تعداد نقاط تلاقٍ أخري بين صحبة يوسف وبحر وبين رفقة موسي والخضر، غير أن الأهم من ذلك التأكيد علي أن العلاقة بين بطلي »إفلات الأصابع»، بل والرواية بأكملها مفتوحة علي تأويلات عديدة، وربما لم لو تشر كلمة ظهر الغلاف إلي الشبه بين رحلة النبي موسي مع الخضر ورحلة سيف مع بحر، لما انتبه كثيرون إليه ولما بحثوا عن نقاط التشابه، التي رغم سهولة تلمسها، يمكن رؤيتها في ضوء آخر لو أسلمنا نفسنا للقراءة دون الانشغال بالمقارنة. *** اختار صاحب »سماء أقرب» لعمله الجديد أن يسير الحكي فيه علي هيئة خطين سردين متوازيين في البداية قبل أن يتقاطعا، أو بالأحري خط سردي أساسي هو ذلك الخاص بسيف وبحر وما يتعلق بحياتيهما ورحلتهما، وخط آخر يتفرع ويتوزع علي باقي الشخصيات وحكاياتها التي ستبدو مشتتة في البداية، رغم جماليات كل منها كنص منفصل، ثم تلتئم خيوطها وتُغزل معاً في النهاية لتمنحنا الرواية بعض أسرارها، وليس كلها، إذ يظل الكثير منها في موضع الاحتمال والتساؤل، لدرجة قد تدفع القارئ لإعادة القراءة مجدداً بحثاً عن علامات مخفية أو مفاتيح متوارية قد يكفل اكتشافها إضاءة بعض ما حرص الكاتب علي تركه في حيز الظلال واللاوضوح. من ناحية أخري، ينجح خير في تقديم عالم مفارق للواقع عبر تفاصيل كاملة الواقعية، أو علي الأقل يمكن ردها للواقع بسهولة. نستشعر أحياناً أن ثمة حذر ما من التوغل في الغرائبية، أو مسافة محسوبة يبدو الكاتب حريصاً علي وضعها بينه وبين الغرائبي والفانتازي، لكن في مقابلها مسافة أخري تبعده عن الواقعي المعتاد، إذ أن الكتابة هنا ليست مجرد انعكاس للواقع، إنما تضفير لتفاصيله بطرق غير متوقعة بحيث نجد أنفسنا في نهاية المطاف في فضاء حلم يحضر فيه طرف مما عايشناه، لكن بعد أن اشتغلت عليه يد الفن فحولته إلي خلق جديد ينطوي علي جوهر أصله الواقعي مع حمولات التخييل والمجاز المفتوحة دوماً علي ما هو أبعد من الواقع المحدود. لا يدعي المؤلف هنا أنه يكتب عن الثورة، إذ لا تكاد ترد هذه الكلمة علي امتداد صفحات الرواية، ومع هذا فالثورة حاضرة وقد استحالت خلقاً مجدولاً من جدائل الحلمي المراوغ والواقعي الرهيف المتجاوز لها ليشمل أي حدث مزلزِل. علي المنوال نفسه يمثُل القمع والقهر بأكثر الصور خفوتاً وتأثيراً، عبر آثارهما علي الوجدان بعد مضي زمن القمع بسنوات، فتجربة الاعتقال القصيرة طبعت حياة »بحر» بعدها بطابعها، وأورثته شعوراً دائماً بالتهديد وعدم الاستقرار: »تمحورت حياتي حول صيغة واحدة لا يمكنني بدونها أن أتنفس: أن أستطيع المغادرة في أي وقت، دون أن أشعر بأنني تركت شيئاً ورائي، وظيفة، ملكاً، شخصاً، أو حتي صفحات كتاب». هكذا عاش بحر بحقيبة صغيرة جاهزة خلف الباب في كل مكان أقام فيه، واكتفي بقراءة الكتب صغيرة الحجم، وأكل المقبلات والأطباق الجانبية بدلاً من الطبق الرئيسي. أي حياة عابر السبيل المُطارَد والمهدد دوماً. شخصيات الرواية مرسومة بمهارة وبدرجة عالية من الإقناع الفني رغم غرابة معظمها، وكذلك الحكاية الخاصة بكل منها، في لحظات بعينها شعرت أن بعض الشخصيات/ الحكايات تحتمل أن تتحول إلي عمل موسع قائم بذاته، لأنها ظُلِمت حين ظهرت عابراً هكذا، حدث هذا علي وجه التحديد مع شخصية العلايلي، الذي جهز مستشفي وفريقاً طبياً كاملاً لمتابعة صحته وحده، وكذلك أشرف الطبيب الشاب في مستشفي العلايلي. توقعت أن أجد للاثنين دوراً أكبر في الصفحات التالية وبدا كل ما يخص العلايلي ومشفاه مثيراً للاهتمام، لكن هذا الخيط تحديداً لم يمتد كثيراً. في المقابل، شخصية علياء لا تُنسي بكل تفاصيلها وبلعبة المرايا الموفقة الخاصة بشخصيتها الأخري، وشخصية بحر بالطبع وسيف بكل تساؤلاته وارتباكاته، وأحمد الذي فضّل المؤلف افتتاح عمله به، واختار له أن يكون المحرك لرحلة قرية »وهدة» صوب الشاطئ الآخر، وهي الرحلة التي حفزت بحر علي نحو ما علي العودة ليبدأ رحلته الخاصة مع بحر. حين أكتب عن الشخصيات علي هذا النحو تبدو كشخصيات حقيقية، لكنها في العمل تمثُل مموهة ومشكوك في وجودها أصلاً رغم براعة رسمها. في محطات رحلتهما جمع البطلان حكايات كثيرة تخص الشخصيات المفترضة، دونها بحر وأنصت إليها سيف بانتباه، وحين اختفي بحر، عكف سيف علي كتابة ما مر به، لتأتي أسئلة ليلي له موحية بأن كل ما سبق من وحي خياله، قبل أن يشكك الكاتب في هذا الإيحاء في الصفحات الأخيرة مظهراً »بحر» المختفي كرسول يستشرف علامات النهاية/ القيامة، ومنهياً عمله بعنوان مراوغ هو »العودة». العودة إلي أين؟ ومن أين؟ وهذا الانهيار الأخير، أهو نبوءة بحدث مزلزل آخر يشبه الأول؟ قيامة؟ ثم إلي أي عالم ينتمي شخوص الرواية؟ أي عالم أفاق عليه علي ويتحرك فيه الموتي؟ أهو بعد الأبد بقليل أو بعد النهاية فعلاً مثلما يوحي عنوان الفصل الأخير؟ كما كل الأعمال الجيدة المراوغة، لا تمنحنا »إفلات الأصابع» أجوبة جاهزة. وكل جواب مقترح له -بين دفتيها- ما يؤيده وما يشكك فيه.