بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    الحكومة: وزير التموين يعلن أسعار الخبز السياحي السبت    سعر الذهب اليوم فى السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 20 إبريل 2024    300 جنيها .. مفاجأة حول أسعار أنابيب الغاز والبنزين في مصر    عميد تجارة الإسكندرية: السيطرة على سعر الصرف يزيد من فرص الاستثمار    عاجل وفاة شخص على الأقل وإصابة آخرين عقب انفجار داخل قاعدة "كالسو" جنوبي العاصمة بغداد    سمير راغب: إسرائيل لا تمتلك الإمكانيات لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية (فيديو)    ارتفاع عدد الشهداء جراء استهداف منزل في حي تل السلطان إلى 8 بينهم 5 أطفال    التعادل يحسم مواجهة بيلباو وغرناطة في الليجا    «أتمنى الزمالك يحارب للتعاقد معه».. ميدو يُرشح لاعبًا مفاجأة ل القلعة البيضاء من الأهلي    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    استون فيلا يفقد مارتينيز أمام اولمبياكوس في دوري المؤتمر الأوروبي    مدرب مازيمبي: عندما يصل الأهلي لهذه المرحلة يصبح فريقا هائلا    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    ملف يلا كورة.. عقل كولر.. قائمة الزمالك لمواجهة دريمز.. وتألق مرموش    جنازة مهيبة للطفل ضحية جاره.. ذبحه داخل شقة في شبرا الخيمة    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    تهنئة شم النسيم 2023: احتفالات وتقاليد    دينا الشربيني تكشف عن أصعب مشاهدها بفيلم «شقو» (فيديو)    نبيل الحلفاوي متأثرًا بوفاة صديقه الفنان صلاح السعدني: «اليوم ودعت جزءًا كبيرًا وجميلًا وعزيزًا من عمري»    سمية الخشاب: استحق جائزة أفضل ممثلة في مسلسلات رمضان    بليغ حمدي الدراما.. إياد نصار يكشف سر لقب الجمهور له بعد «صلة رحم»    أبرزهم عمرو دياب وإيهاب توفيق.. نجوم الفن فى زفاف نجل محمد فؤاد (صور)    خالد منتصر: معظم الإرهابيين مؤهلات عليا    آمال ماهر تتألق في حفلها بالتجمع الخامس.. صور    أدعية الرزق: مفتاح للسعادة والاستقرار - فوائد وأثرها الإيجابي في الحياة    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    دخول مفاجئ للصيف .. إنذار جوى بشأن الطقس اليوم وبيان درجات الحرارة (تفاصيل)    عمرو أديب يطالب يكشف أسباب بيع طائرات «مصر للطيران» (فيديو)    عاجل - فصائل عراقية تعلن استهداف قاعدة عوبدا الجوية التابعة لجيش الاحتلال بالمسيرات    إعلام عراقي: أنباء تفيد بأن انفجار بابل وقع في قاعدة كالسو    خبير ل«الضفة الأخرى»: الغرب يستخدم الإخوان كورقة للضغط على الأنظمة العربية المستقرة    تعليق مثير من ليفاندوفسكي قبل مواجهة «الكلاسيكو» ضد ريال مدريد    وزير الرياضة يتفقد المدينة الشبابية بالغردقة    قطر تعرب عن أسفها لفشل مجلس الأمن في اعتماد قبول العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة    باحث ل«الضفة الأخرى»: جماعة الإخوان الإرهابية تتعامل برؤية باطنية وسرية    داليا عبد الرحيم: الإخوان أسست حركات لإرهاب الشعب منذ ثورة 30 يونيو.. خبير: عنف الجماعة لم يكن مجرد فعل على الثورة.. وباحث: كان تعاملهم برؤية باطنية وسرية    سر الثقة والاستقرار: كيف تؤثر أدعية الرزق في حياتنا اليومية؟    أدعية الرزق: دروس من التواصل مع الله لنجاح وسعادة في الحياة    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    مرض ضغط الدم: أسبابه وطرق علاجه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    داليا عبد الرحيم: الإخوان أسست حركات لإرهاب الشعب منذ ثورة 30 يونيو    ارتفاع سعر السكر اليوم الجمعة 19 أبريل في مصر    تقليل الاستثمار الحكومي وضم القطاع غير الرسمي للاقتصاد.. أهم ملامح الموازنة الجديدة    وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء يفتتحان أعمال تطوير مسجد الصحابة بشرم الشيخ    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم ب المنيا    11 جامعة مصرية تشارك في المؤتمر العاشر للبحوث الطلابية بكلية تمريض القناة    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    الحماية المدنية تسيطر على حريق في «مقابر زفتى» ب الغربية    وزير الصحة يتفقد المركز الإفريقي لصحة المرأة ويوجه بتنفيذ تغييرات حفاظًا على التصميم الأثري للمبنى    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    شكوى من انقطاع المياه لمدة 3 أيام بقرية «خوالد أبوشوشة» بقنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عادل كامل الكاتب الذي ألقي بحجر ثمين ثم مضي
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 07 - 2016

الحديث عن الكاتب والأديب عادل كامل،ذلك الكاتب الذي ألقي بحجر ثقيل وثمين منذ أكثر من سبعين عاما في حياتنا الأدبية والثقافية، ثم مضي بشكل شبه كامل، لا بد أن يستدعي الحديث عن المرحلة التي نشأ فيها، ثم المرحلة التي أبدع كتاباته أثناءها، ثم المرحلة الثالثة التي غاب فيها تماما، ليثير أكثر من لغز لذلك الظهور الحاد جدا، ثم يفجّر أسئلة عديدة بذلك الاختفاء الأكثر حدة، رغم كافة المناشدات التي كان يبذلها أصدقاؤه، وعلي رأسهم صديقه الأقرب نجيب محفوظ، وصديقه الفنان والمخرج توفيق صالح، والذي كان يلتقي به أثناء اعتزاله الأدب والأدباء والثقافة والمثقفين.
ربما يكون سؤال اختفاء واعتزال عادل كامل، هو السؤال الأكثر إثارة، سؤال لايثير الشجن والحسرة، بقدر ما يقف لغزا محيّرا أمام تلك الموهبة التي تفجّرت في عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وأبدع روايتين، اعتبرهما النقاد والمتابعون آنذاك من ألمع الروايات، وهما رواية »ملك من شعاع« والتي حصل بها علي الجائزة الممتازة في مسابقة وزارة المعارف كما كتب علي غلاف الرواية، ونشرتها لجنة النشر للجامعيين في يونيه عام 1945، وكانت تلك اللجنة قد نشرت لكامل مسرحيته »ويك عنتر« ابريل عام 1944، ثم نشرت روايته الأكثر شهرة »مليم الأكبر« في نوفمبر 1944، رغم أن رواية »ملك من شعاع«،كانت قد كتبت قبل »مليم الأكبر«، إلا أنهما لم ينشرا حسب ترتيب كتابة عادل كامل لهما.
أي أنه كان قد رسّخ أقدامه كمبدع كبير في خلال أعماله المسرحية والروائية، هذا عدا نشره لقصتين لا تقل قيمتهما عن تلك الأعمال، وهما قصتا »ضباب ورماد« و»ويك تحتمس«، الأولي نشرتها مجلة »المقتطف«، والثانية نشرتها مجلة »الفؤاد«، وتناول النقاد أعماله الروائية بالنقد والتحليل، وكان أول من كتب عن رواية »ملك من شعاع« في ذلك الوقت، الناقد والمؤرخ الأدبي وديع فلسطين، وذلك في مجلة الرسالة بعد صدور الرواية مباشرة، وأثار فلسطين قضية نزوع الشباب في تلك الفترة إلي الكتابة التاريخية، وخاصة استدعاء مرحلة مصر القديمة، واستلهام حياة الفراعنة القدماء، وخبراتهم الجبّارة في الطب والتعليم والحكم والقوانين والزراعة والتحنيط والفنون والحقوق وكل ما هو معروف عن حضارة مصر القديمة في فجر التاريخ.
وبالطبع لم تكن ملاحظة وديع فلسطين غريبة أو جديدة أو مدهشة، إذ إن المصريين في تلك الفترة كانوا في حالة بحث عن هوية، وكان سؤال »مصر للمصريين« الذي طرح منذ أواخر القرن التاسع عشر قائما وفاعلا، وأكدّه في أوائل القرن العشرين أحمد لطفي السيد، وسار علي نهجه بأشكال معلنة وملتبسة رهط من الأدباء والشعراء والمفكرين، منهم الشاعر أحمد شوقي في قصائده العديدة حول النيل وتوت عنخ آمون وأبوالهول وغير ذلك من قصائد تعمل علي تمجيد السمات المصرية الأصيلة، وماقصيدته عن تمثال »نهضة مصر« للفنان العظيم »مختار« إلا خطوة مهمة علي طريق شعار »مصر للمصريين«، وبالتأكيد كانت ثورة 1919 هي الرافعة الأهم والأكثر فاعلية في محاولة بحث المصريين عن ذاتهم القومية.
وكان عادل كامل يتلقي هذا المناخ بكل زخمه، ويستوعب الحياة المصرية بكل تنوعاتها سنة بعد الأخري، إذ ولد عادل كامل فانوس عام 1916، لأسرة مسيحية مستنيرة، وكان والده محاميا،ولذلك اختار لابنه عادل الطريق نفسها التي سلكها الأب، رغم رغبة عادل في دراسة الآداب والفنون، وتكوّنت شخصية كامل علي شعارات ثورة 1919، تلك الشعارات التي كانت تؤكد معاني الحرية بكل تجليّاتها الليبرالية في ذلك الوقت، وعاد شعار »مصر للمصريين« يرتفع في آفاق الحركة الوطنية من جديد، ويجد دعائمه في الفن والأدب والثقافة .
لذلك لم يكن كتابا »الإسلام وأصول الحكم« لعلي عبد الرازق عام 1925، و»في الشعر الجاهلي« لطه حسين عام 1926، إلا محاولة لكسر إيقاع التفكير التقليدي والسلفي والقديم، بكل ما جرّه ذلك القديم من كوارث واستنامة للفكر والإبداع والحياة عموما علي العرب، وبالتأكيد ليس كل قديم الشرّ كله، وليس كلّ جديد الخير العميم، وهذا ما اتضح في كتابي عبد الرازق وطه حسين، ولكن ما فعله الكتابان في النخبة الرجعية آنذاك، كان فوق الوصف كما تدلّنا المتابعات المهولة للحرب الضروس التي دارت حول الكتابين في تلك الفترة، ولا ننسي أن في ذلك العقد، كتب المصريون أكمل دستور لهم، وهو الدستور الذي اشتهر بالعام الذي كتب فيه، اقصد »دستور 1923«، ذلك الدستور الذي نصّ علي غالبية ماكان يحلم به المصريون.
وبالطبع لم تمرّ تلك الأحداث والإبداعات بسلام، ولكنها كانت تجد من المقاومة كثيرا من العنت، وكان السلفيون في الفكر والدين والفنون عموما والسياسة والحياة واقفين بالمرصاد لأي نبتة تنبثق في ذلك المناخ، وكان الشيخ محمد رشيد رضا، ذلك الرجل اللبناني الذي زرع أصول السلفية في مصر، وكوّن حوله نخبة من هؤلاء، من خلال مطبوعته المنار، وكانت نتيجة جهود محمد رشيد رضا أن تكوّنت جماعة »الإخوان المسلمين«، عام 1928، أي في أوج اشتعال الحركة الثقافية والفكرية والفنية والأدبية، وأصبحت تلك الجماعة شوكة تنشب مخالبها في كل تقدم، وتثير كثيرا من الشكوك في كل ما تقدمه النخبة المصرية، وفي عام 1934 تحولت من جماعة دعوية إلي جماعة سياسية، تفرض رؤاها وخطّها السياسي، وتعمل علي تأويل النصوص بما يخدم الحياة الرجعية في كل صورها، ولكن كل ذلك لم يمنع المصريين عموما عن تقديم إنجازات سياسية وفكرية وأدبية ذات طابع تقدمي وطليعي.
ونحن لا نريد رصد تلك الإبداعات التي كانت قائمة وفاعلة في تلك المرحلة، ولكننا نؤكد علي أن معظم ما أبدعه المصريون في العقود الثلاثة الأولي من القرن العشرين، كان تمهيدا قويا لعقد الأربعينيات العظيم، هذا العقد الذي تفجّرت فيه مواهب كبري، منهم، بل في مقدمتهم نجيب محفوظ وعادل كامل وعلي أحمد باكثير في الرواية، ذلك الفنّ الجديد الذي راح يأخذ مكانته منذ أن الروايات الثلاث الأكثر تأثيرا »حديث عيسي بن هشّام للمويلحي، وصدرت طبعتها الأولي عام 1907، ثم رواية »زينب« لمحمد حسين هيكل وصدرت الطبعة الأولي في كتاب عام 1914، ثم رواية »عودة الروح« لتوفيق الحكيم، وكان قد كتبها عام 1927، ولظروف عديدة تأخر نشرها إلي عام 1933 .
وإذا كانت روايتا »حديث عيسي بن هشّام و »زينب« تتمتعان بقدر كبير بمحاولة التأسيس لفنّ جديد في مصر اسمه فن الرواية، إلا أن حظ رواية »عودة الروح« لتوفيق الحكيم كان أوفر في هذا المجال، إذ كانت روح 1919 تهيمن علي النص بطوله السردي، وعمقه الفكري، واقتبس الحكيم فقرة دالة وحافزة وموحية من نشيد الموتي تقول : »عندما يصير الزمن إلي خلود ..سوف نراك من جديد .. لأنك صائر إلي هناك..حيث الكل في واحد«، بالطبع أخذت رواية الحكيم طريقها الطبيعي في التأثير علي جيل كامل أتي بعد ذلك، وراح ذلك الجيل يعمل علي تطوير ذلك الفنّ، ويحاول تخليصه من أي شوائب تجعله فنّا مشتبكا مع فنون كتابية أخري،أي أن نجيب محفوظ وعادل كامل وعلي أحمد باكثير ومن أتي بعدهم كانوا يبحثون عن فنّ روائي مصري بامتياز، مهما كانت أشكال التشدق بشكل الرواية الغربية قائمة علي قدم وساق، وهذا ما كتبه عادل كامل في مقدمة روايته الأكثر إثارة »مليم الأكبر« فيما بعد، وراح يستدعي دزينة من الأفكار الغربية بتوسع، وهذا ماسنناقشه لاحقا.
إذن كانت مفردات الحياة السياسية والثقافية والفكرية لعادل كامل ونجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير ومحمد عودة وغيرهم، تتوزع علي مأثورات سياسية، وعلي رأسها ثورة 1919 بكل ماحملته من أفكار ومعان وأمنيات، وبكل ماحاولت ترسيخه حول الحريّات السياسية، والمواطنة الصحيحة والعادلة لكل المصريين بعيدا عن التمييز العنصري أو القبائلي أو السياسي أو الديني، وحرية المرأة والصحافة والفكر والتعبير والاعتقاد، وكان دستور 1923هو إحدي الأيقونات والتجليّات التالية لثورة 1919، والذي كان من المفردات المشرقة التي تبنّاها المصريون، وخاضوا معارك ضارية من أجل استعادته،عندما عملت قوي الطغيان لإلغائه، ولم تكن دماء المصريين التي سالت في ثورة 1935، إلا لاستعادته وتفعيله، وراح شهداء مصريون مثل عبد الحكم الجراحي وعبد المجيد مرسي من أجل ذلك الدستور المنشود، حتي عاد العمل به عام 1936 .
ولم تكن المفردات السياسية المشرقة تعمل بعيدا عن كافة التجليّات الفكرية والأدبية، ولكن بضع كتابات لمفكرين كبار ومجاهدين علي طريق الفكر والإبداع قد أسسوا لحركة فكرية وأدبية، وكما أسلفنا كانت الإبداعات متفرقة علي كتب صارت تشبه الدساتير السياسية، إذ كانت »عودة الروح« لتوفيق الحكيم،وأشعار بيرم التونسي التي كانت تصل إلي مصر رغم منفاه الإجباري في فرنسا، وكان كتاب »مستقبل الثقافة« لطه حسين، وغيرها من كتابات بمثابة علامات مشرقة ومضيئة علي طريق الوعي الوطني والقومي علي حد سواء، ومن هنا كان سؤال الهوية مطروحا بقوة، ذلك السؤال الذي كان مفعما بكل معاني الحرية في تفسيراتها الغربية .
ومن هنا كان عقد الأربعينيات مجالا خصبا لإبداعات كثيرة،إبداعات راحت تبحث في التاريخ أساسا عن الأصول المصرية، فكانت علي سبيل المثال روايات »أحمس« لعبد الحميد جودة السحار مايو 1943، و»عبث الأقدار1939 ورادوبيس يوليه 1943 وكفاح طيبة أغسطس 1944« لنجيب محفوظ، ثم »ملك من شعاع« لعادل كامل، و»اخناتون ونفرتيتي« لعلي أحمد باكثير، حتي الناقد الأدبي والشاعرفي ذلك الوقت سيد قطب كتب روايته »المدينة المسحورة« عام 1945 راحت تستلهم الحياة المصرية القديمة علي ضفاف أحلام شهر زاد، ولم تكن الإبداعات الأدبية وحدها هي التي كانت تنفرد باستدعاء الحياة المصرية القديمة، ولكن شرع عالم الآثار الدكتور سليم حسن في كتابة موسوعته العظيمة »مصر القديمة«، ومنها تعرّف المصريون علي تاريخهم من أوسع الأبواب، كذلك كتب الأديب والصحفي عبد القادر حمزة مجلدين »علي هامش التاريخ المصري القديم« وغيرها من كتابات أثرت الحياة الثقافية والفكرية المصرية بزخم لم يكن موجودا من قبل.
وكذلك راح الكتّاب يبحثون في زوايا أخري عن هوية مصر، فراحوا يكتبون عن شخصيات إسلامية مثل »أبو ذر الغفاري«، و»بلال مؤذن الرسول« لعبد الحميد جودة السحار، و»إسلاماه« و»سلامة القس« لعلي أحمد باكثير، وغيرها من كتابات، وجدير بالذكر أن كتّابنا الكبار مثل محمد حسين هيكل وطه حسين وعباس محمود العقاد، كانوا قد ذهبوا إلي التراث الإسلامي لفهمه، والبحث فيه عن روافد أخري لشخصية مصر، إذ إن ذلك البعد الإسلامي كان فاعلا، ولكن علي يد السلفيين، وماكان دخول هؤلاء الكبار إلي ساحة البحث في التراث الإسلامي، إلا لمحاولة تصحيح الرؤي والنظريات التي استقرت في أذهان الجموع المصرية علي يد محتكري تلك المساحة من سلفيين وجماعة الإخوان والرجعيين.
وكان هناك رافدان أساسيان قد كانا يعملان بفاعلية في تلك المرحلة، الرافد الأول،وهو الذي راح طه حسين يقلّبه علي وجوه تاريخية وجغرافية وسياسية وأدبية عديدة، أي ذلك الجانب الذي يقول بأن مصر تنتمي لثقافة البحر المتوسط،أكثر من أي ثقافة أخري، ومن هنا كانت إبداعات عديدة قد انبثقت حول كليوباترا وأنطونيو، وعلي رأس تلك الإبداعات مسرحية »مصرع كليوباترا« لأحمد شوقي، وقيصر وكليوباترا لإسماعيل مظهر، ثم »انطونيو وكليوباترا« لعلي أحمد باكثير، ولا ننسي هنا توفيق الحكيم الذي شارك بمسرحه في كل تلك المجالات.
أما الرافد الرابع فهو البحث في التراث الشعبي العربي، وكان استلهام »ألف ليلة وليلة« مجالا خصبا لإبداعات كثيرة، فكتب طه حسين »أحلام شهرزاد«، ثم كتب بالاشتراك مع توفيق الحكيم القصر المسحور«، وكتب توفيق الحكيم مسرحية أشهرزاد«. وكتب علي أحمد باكثير مسرحيته »سر شهرزاد«، وكتب عبد الرحمن الخميسي »ألف ليلة وليلة الجديدة« ،وكتب سيد قطب كما أسلفنا روايته االمدينة المسحورة»، وكان طه حسين قد كلّف تلميذته سهير القلماوي بإنجاز دراسة رائدة عن ألف ليلة وليلة، وصارت تلك الدراسة مرجعا مهما وحيويا حتي الآن.
إذن فعادل كامل كان قد تكوّنت شخصيته الأدبية والإبداعية، وبالتالي ذائقته الفنية علي كل تلك الروافد والعناصر الثقافية المتعددة، بالإضافة إلي استغراقه في قراءة الأدب الإنجليزي،إذ كان مثل مجايله العظيم نجيب محفوظ، يتقن القراءة باللغة الإنجليزية، وكتب في أواخر الثلاثينيات مسرحيته »ويك عنتر«، تلك المسرحية التي كانت باكورة أعماله،والتي أفصحت عن ثقافته الواسعة من خلال اختياره لشخصية أحمد فخري المرتبكة،تلك الشخصية التي كانت مشغولة بالثقافة،ولكن بطريقة يبدو عليها الخلل، تلك الشخصية التي نجد امتدادها في جماعة »القلعة« التي كانت ملمحا رئيسيا في روايته »مليم الأكبر«، وعلي أية حال فالمسرحية كانت قد أفصحت عن كاتب جديد اسمه عادل كامل، مجرد إعلان عنه، حيث إن المسرحية رفضها زكي طليمات، ولم تجد طريقها إلي خشبة المسرح، لذلك راح عادل كامل إلي ساحة السرد، فكتب قصتيه »ضباب ورماد«، و»ويك عنتر«، ثم كتب روايته الأكثر أهمية في كل إبداعه كما أظن وهي »ملك من شعاع«.
أعتقد أن »ملك من شعاع« لم تكن استلهاما للتاريخ المصري القديم والعظيم فحسب، بل كانت إسقاطا علي الواقع الذي كانت تعيشه البلاد في ذلك الوقت، ومحاول استبصار لما يحدث، حين إن المصريين كانوا بعد الزعامة التاريخية لسعد زغلول، ووجهات النظر المتباينة حوله، وكافة الكتل السياسية التي تفرقت حوله،ورغم أن الزعيم مصطفي النحاس كان قادرا علي كسب جماهيرية عالية،إلا أن الفراغ الذي تركه سعد زغلول كان مهولا، وكانت قضية البحث عن مخلّص،وعن عادل مستبد كما نادي توفيق الحكيم، قضية تشغل الكثيرين، وبالطبع عادل كامل، المثقف والمبدع والفنان، فكان اختيار شخصية »اخناتون« اختيارا موفقا وصائبا ومناسبا لروح عادل كامل، والذي كتب في مقدمة الرواية العل اخناتون أعظم عاهل أعقبه التاريخ منذ الأزل، فقد تقلّب علي الأرض ملوك كثيرون نبغوا في فنون الحرب، فعرف التاريخ تحتمس ورمسيس، وعرف الإسكندر وقيصر، ولا يزال عهدنا بنابليون قريبا، ولكن أحدا من ملوك العالم لم يتأت له أن ينبغ فيما نبغ فيه اخناتون،وليس من بينهم من يستطيع أن يثير إعجابنا بل دهشتنا بمثل مايثيره هذا الملك الشاب.
إذن كان عادل كامل يري أن إخناتون هو أعظم شخصية في التاريخ، وهي الشخصية التي كان يأمل أن تكون الملهم الأعظم لجيله وللأجيال التي تليه، وفي استطراده لبناء شخصية الملهم الأعظم، كانت تتملكه الحسرة وينتابه الأسي، لأن تلك الشخصية التي أحدثت أكبر ثورة روحية ودينية وسياسية في التاريخ، انتهي بها الأمر إلي الهزيمة الشنعاء، تلك الهزيمة التي لم تأت من متآمرين فقط،بل تحققت علي يدي شعبه الذي أحبه إخناتون، وقام بثورته من أجله،وأبدع أجمل أفكاره، وجنّد وحيه الإلهي من أجله، ذلك الشعب الذي كان يراه عادل كامل نظرة تتسم بدرجة كبيرة من السلبية، ورغم أن إخناتون العظيم كان يتم ذبحه بيدي شعبه،إلا أنه كان شديد الثقة والإيمان بكل ما نادي به، وبكل ما قاوم به كهنة آمون، وكانت خطبة إخناتون الأخيرة،والتي التزم بعدها فراش الموت، كانت خطبة معبرة وحاسمة في نهايته الحتمية، ولذلك فالراوي يقول : »ياللشعب الأعمي ! لعل فرعون كان علي حق حين قال بأن الناس تفضل الكراهية علي الحب.«، وكان شكّ أخناتون يمعن في تعذيبه، أما إيمانه بنص الرواية فقد كان يقتله، فبالرغم من كل ماحدث أحس إخناتون في قرارة نفسه أنه علي حق، وبدلا من أن يورّثه هذا الشعور شيئا من راحة النفس التي كان في أمس الحاجة إليها، إذا به يضيف إلي أحزانه عبئا من الآلام،أدرك لتوه أنها قاضية عليه.
كان عادل كامل الراوي متعاطفا أيما تعاطف مع إخناتون وثورته وديانته الجديدة، وكأن عادل كامل نفسه يحاكم كهنة آمون معه، ونجد الراوي يرتفع إلي درجة مشاركة بطله »إخناتون« ثورته وكراهيته لخصومه، حتي مقاومته لأبيه وأمه في بعض قناعتهما، ويشاركه عدم الخضوع والاستسلام لناصحيه، ويشاركه حبه العظيم لزوجته نفرتيتي، وذلك يدلّ علي أن الراوي مؤمن أشد الإيمان بكل ما تنفس به إخناتون العظيم، لذلك جاءت الرواية،وكأنها نص يكتبه عادل كامل لاستنهاض شعب تأخذه الويلات يمينا ويسارا، وينبهه بأن هناك في التاريخ زعيماً متعدد الوجوه، مرّ من هنا، ليصنع أهم الأحداث في تاريخ البلاد.
وبالقدر الذي كان عادل كامل يشعر بمحبته لشخص إخناتون، جاءت الرواية سلسة وناعمة وشعرية، متأثرة إلي حد بعيد بخطابات إخناتون نفسه، خطابات الحب، فيرق عندما يخاطب حبيبته نفرتيتي، ويكتب لها مايشبه الشعر، ويتحاور معها باللغة التي تفصح بأن الأنبياء يعشقون بقوة أيضا، وسوف نلاحظ أن خطاب الراوي كان يتماهي في كثير من الأحيان مع خطاب البطل، وكأن الراوي وبطله هما اللذان يؤلفان النص، وتلك كانت سمة رومانسية، غمرت كتّاب تلك الفترة، وخاصة نجيب محفوظ في روايتيه »كفاح طيبة« و»رادوبيس«، حيث أن الكاتبين محفوظ وكامل، اعتبرا أن عصر الفراعنة من أعظم العصور التي عاشتها مصر، وهذا يفسّر ذروة الإبداع التي وصل إليها الكاتبان في كتاباتهما عن تلك الحقبة.
ولا أريد أن أقفز علي الأحداث، وأقرر تفسيرا لما حدث لعادل كامل من توقف، ولكن السياق هو الذي يدفعني بالقول إن توقف عادل كامل عن الكتابة، هو الانحياز الذي بدت الأمور عليه فيما بعد، وارتفاع الشعارات التي حملت رايات العروبة علي قمة الهرم الثقافي والفكري، وكذلك كانت الروح البراجماتية التي تعاملت بها ثورة يوليو في مطلعها مع جماعة الإخوان المسلمين، تلك الجماعة التي كانت تشكّل العدو الأول لما يمثله عادل كامل ونجيب محفوظ، وهذا تفسير أيضا لتوقف نجيب محفوظ نفسه منذ 1952 حتي 1957، عندما بدأت صفحة أخري تنفتح في تاريخ ثورة يوليو، وكانت رواية عادل كامل الثانية،وهي »مليم الأكبر« حاسمة في الإفصاح عن قلقه وتمرده علي ماهو سائد في جميع الوجوه، وأبانت مقدمته التي وصلت إلي 128 صفحة تمرده علي الثقافة العربية منذ قرون سحيقة، واعتباره أنها ثقافة ألفاظ وزينة، وليست ثقافة أفكار ومعان، وأبدي اندهاشه من هؤلاء العرب الذين ظلّوا متأثرين بكتاب واحد علي مدي التاريخ، ويعتبرونه هو الكتاب الأكثر تعبيرا عنهم وعن ثقافتهم، وهنا جاء ردّ الناقد سيد قطب عليه، مدافعا عن الثقافة العربية، ونفيه بأنها ثقافة لفظية،أو ثقافة كرنفالات، وكذلك لم تكن قضية اللفظ والمعني التي أثارها عادل كامل تخصّ الغرب فقط، وليس الغرب هو مخترعها الأول أو الأوحد، وهكذا كان عادل كامل يرسل أفكاره المبالغ فيها علي سجيتها، ويقول بأن العرب لم يأتوا بفكرة واحدة، ولكنهم كانوا يفرطون في ثقافة الشكليات، ونادي في مقدمته التي تشبه مقدمة لويس عوض لديوانه »بلوتلاند« الصادر عام 1947، بالاستعانة بثقافة الغرب، متخطيا بذلك كل الذين سوف يزعجونه بالحديث عن الوطنية الحقيقية وهكذا.
كان ردّ سيد قطب عليه، بأن الحديث عن قضية اللفظ والمعني، أثارها منذ أزمن بعيدة، وكان قطب نفسه قد كتب كتابا مهما في ذلك الوقت، وهو »التصوير الفني في القرآن«، وساق عددا من الاقتباسات التي تعني بأن القضية قديمة أولا، وعربية ثانيا، ومحسومة ثالثا لصالح التراث الثقافي العرب، ورغم أن عادل كامل كان قداستعان بسيد قطب نفسه بشكل إيجابي، إلا أن سيد قطب ناقشه في هدوء، ودون تشنج،حيث أنهما ومعهما نجيب مفوظ وآخرون كانت تشغلهم قضايا متقاربة، رغم مواقفهم المختلفة نحو تلك القضايا، تلك الخلافات التي كانت تصل إلي حد التناقض والتناحر.
المقدمة التي كتبها عادل كامل لروايته »مليم الأكبر« جاءت بعدما رفضت اللجنة الموقرة لمنح الرواية جائزتها، وكانت كذلك معها رواية »السراب« لنجيب محفوظ، وعلي طول المقدمة،إلا أنها جاء كحوارية دارت بين المؤلف عادل كامل، ومليم الأكبر، الذي هو بطل الرواية، وقد أفصح مليم،أو تخيّل بالطبع ماحدث في اللجنة من حوار وجدل حول التقرير النهائي الذي منع وصول الجائزة إلي أي من الروايتين، وبلا شك فإن المقدمة علي هذه الشاكلة كانت ممتعة وشائقة،حيث استطاع عادل كامل أن يحمّلها كافة آرائه وأفكاره المفرطة في التمرد.
ويكتب عادل كامل حكاية المقدمة في مطلعها قائلا : »لهذه القصة قصة ..ولست أعني قصة واقعية أوحت بها، وإنما قصة خيالية، وهي قصة خيالية لأنها لا تستند إلي حقائق الحياة، ولا تقوم علي رأي واقعي حصيف في فهم الأدب، ولست أعرف تفصيل أمر هذه القصة علي وجه اليقين، وإن كنت أعرف فصلها الأخير، وإنه لعجيب« ... قدمت رواية »مليم الأكبر« في مباراة فاروق الأول للقصة المصرية التي تنظرها لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، ولأمر ما رأت اللجنة أن تبيع سمسما مقشورا بغير قشور، فرفضت أن تعطي »مليم« بضعة الجنيهات المقررة، أو أن تعطيه جائزة بدون جنيهات«.
ومن هنا راح المؤلف يستدرج بطله »مليم الأكبر« لكي يحكي له ماحدث في اللجنة، حيث يتندر مليم بأنه ظل خاضعا طوال الفحص لمبضع اللجنة الموقرة القديم والتقليدي، ذلك المبضع الذي لا يعرف كيف يصل إلي كبد الحقيقة، ومن هنا لم يستطع قراءة الجسد بشكله الصحيح، فمنع عنه كافة وسائل العلاج المريحة، وهكذا أخذ الحوار طريقا أخّاذا بين الجدّ والفكاهة، ليقول لنا، إن تلك اللجنة غير قادرة علي قراءة النصوص الجديدة، وبالتالي فلن تمنحها الرضا أوالجائزة في أي مرحلة من مراحلها،فتلك اللجنة ترفع شعارات قديمة،وتصنع من حولها رأيا عاما ينتصر لما خلصت إليه، وهكذا يخاطب عادل كامل »مليم« قائلا :بإن معظم ماينشب بين الناس من خلاف في الرأي مرجعه الأول إلي أنهم يبادرون بالصياح والضجيج دون نظر إلي موضوع النقاش،فلو أنهم اتفقوا فيما بينهمبادئ الأمر علي تحديد مبناه وتوضيح معناه، لكفي المؤمنين شر القتال،في معظم الأحوال«.
ويستدعي عادل كامل أفكارا لأرسطو وسومرست موم وكرومبي، وبالتالي يضمّن بيانه سلسلة من الحكايات الطريفة، ومنها علي سبيل المثال حكاية الكاتب الانجليزي سومرست موم، والذي كان قد استوظف سكرتيرة له، أو محررة أدبية لمراجعة نصوصه، وعندما أعطاها نصا روائيا له، وهو سومرست موم الكاتب العظيم، إلا أن السكرتيرة أعادت له النص،وألحقت به بضع صفحات كانت قيدت فيها ملاحظاتها علي أسلوب الرواية،واندهش موّم جدا من ذلك الأمر، وراح يقرأ ماكتبته المحررة، فلاحظ أنها تعود بلغة الرواية إلي المفردات والمعاني في أصولها المعجمية، ليست مدركة ماجري عليها من إبداع، وتحويرات فنية، وأدرك موم أن تلك المحررة لا تختلف كثيرا عن مدرسيه الذين كانوا يمنحونه درجات قليلة جدا في حصة اللغة أو الأسلوب، وهنا يستدعي كامل رأيا لسومرست موم يقول فيه : »إن الخلق الفني نشاط من نوع خاص، يبلغ غرضه بمجرد تحققه،وهكذا يستكمل الكاتب نفسه بمجرد أن يبدع آثاره، هذه الآثار قد تكون جيدة، وقد لاتكون«.
وعادل كامل عندما يضرب ذلك المثل، وكأنه يعقد مقارنة بينه وبين الكاتب الانجليزي، إذ يردف تلك الحكاية بقوله : »ولقد كان الأجدر أن تفطن اللجنة إلي هذه الحقيقة، وأن تفطن كذلك إلي أنه ليس من أحد يرعي نفسه، ثم يرضي أن يزج بها في المعترك، بعد أن رأي أمرنا،فماذا يكون الحال لو انقضي الأجل، واضطرت اللجنة إلي النظر فيما لديها من قصص، فلم تجد علي المذود إلا شرّ البقر«.
لم يكن هذا الاستطراد من عادل كامل، هو التطاول الوحيد علي اللجنة، بل استمرالشجب والإدانة علي طول المقدمة، التي صارت بيانا بالفعل، ذلك البيان الذي لم يكن معبرا عن عادل كامل فقط، بل كان يعبّر عن كثيرين بطرق ومستويات مختلفة، وكان بيانا يعلن الخلاف بقسوة بين الجيل الجديد الذي يمثّله عادل كامل، والجيل القديم الذي تمثّله اللجنة الحكومية الرسمية، والتي كانت مغرقة في القدم والتراث، وربما الرجعية كما سنلحظ من بيان عادل كامل، ذلك البيان الذي تكمن فيه أولي بذور الاختفاء الذي حدث لعادل كامل، لأن المقدمة تفصح بألف لسان أن كاتبها لن يستطيع الاستمرار مع مايحدث، وبالتأكيد لن يعود مرة أخري للحياة الأدبية، خاصة بعد ثورة يوليو، وشعاراتها التي تتناقض بشكل واضح وحاد مع كل ما كان يعبّر عنه عادل كامل في مقدمته المفرطة في التمرد والتشاؤم، ومن قبلها روايته »ملك من شعاع« وإيمانه المطلق بقدسية الحياة المصرية القديمة، وعلي وجه الخصوص ماجاء به إخناتون، وتشاؤمه المطلق في إيجابية الشعب الذي ثار علي قائده، ولم يستكمل معه ثورته علي كهنة آمون، وبذلك كان الشعب المصري بتركيبته وثقافته، خاضعا للخزعبلات التي كان يثيرها الكهنة القدامي، لذلك ثاروا علي مخلّصهم وقائدهم،وكأنهم قتلوه.
وكذلك لم تكن روايته الثانية »مليم الاكبر« أقل تشاؤما من روايته »ملك من شعاع»، وإن كانت أقل منها فنية، حيث إنه في »ملك من شعاع«، كان بطله إخناتون محفزا له علي خلق هذا الحسّ الدرامي بين الخير والشرّ، وبذلك كانت الأحداث فنيّا متوازنة، مثلما يحدث في ميزانسيه المسرح، وبالتالي كان عادل كامل قادرا علي إدارة قوانين اللعبة الروائية باقتدار، وكانت اللغة كذلك متزنة بين خطاب إخناتون ونفرتيتي وصحبه في أول طريق النبوة، ووالدته في منتصف حياة إخناتون الأولي، وبين كهنة آمون الأشرار، وكان الرازي قادرا علي صناعة صراع متكافئ بين قوتين شبه متساويتين في الكتلة، فالشرّ والمؤامرات التي كانت تنطلق من كهنة آمون، كانت توازيه حكمة ونبل إخناتون، وجمال نفرتيتي وصوتها المغني، ووالدته الحنون، ووالده الذي يخاف علي ولده، وكانت المادة التاريخية ملهمة بشكل مثالي لإبداع رواية من أجمل ماكتب في الرواية التاريخية.
أما »مليم الأكبر« ،فكل أبطالها أشرار، وكل أحداثها رمزية، وهذا يدلّ علي أن العلاقة بين عادل كامل وأبطاله في تلك الرواية وأحداثها، كانت علاقة عدائية، لذلك كل أبطال الرواية انتهوا إلي أشخاص فاشلين، في مجتمع فاشل، ذلك المجتمع الذي لم يستطع أن يقدم أشخاصا إيجابيين علي الإطلاق، ولا يقدّم أحداثا ذات جمال أو نبل واضح، وبالتالي كانت المصائر كلها محبطة للغاية.
فمليم الأكبر الذي هرب من والده الفقير المجذوب، والذي كان يؤجره لتوصيل الحشيش والمخدرات إلي مستهلكيه، ودخل المجذوب بعدها السجن، فراح مليم يبحث عن عمل شريف، فاهتدي إلي نجار، ذلك النجار أرسله لإصلاح نافذة أحمد باشا خورشيد، وكان لأحمد باشا ولدان، خالد وعمر، وتدور الرواية حول خالد الذي نال قسطا من التعليم في إنجلترا، وعاد بأفكار عالية وجميلة، وكان خالد يحاول إحداث مقارنة بين أفكاره الغربية، وبين محاولات الإصلاح هنا، ولكن دون جدوي، وهذا يعتبر الامتداد الطبيعي لأفكار عادل كامل نفسه، وعندما ذهب مليم لإصلاح نافذة خورشيد باشا، حدث ما أدي بمليم إلي السجن، دون أن يستطيع خالد إنقاذه علي وجه الإطلاق، فقوة والده المادية والواقعية، كانت أقوي بكثير من منطق ورومانسية خالد وأفكاره الهشّة التي أتي بها من الغرب.
عاش خالد حياة مريرة جدا، وترك منزل والده الذي قتل والده بشكل ملتبس، واعتبرته النيابة حادثا عابرا، وراح خالد ليعيش عالة علي عمته التي تكره والده، ولكنها كانت تضمر تزويج ابنتها الجميلة لخالد، وكان خالد يستعذب تلك الحياة التي يعيش فيها علي كدّ عمته، وعلي خيالها الاجتماعي المسكين، ذلك الخيال الذي يعمل علي ربط ابنتها به.
كان مليم قد خرج من السجن،وارتبط بجماعة فنية، ولا تتقن سوي الكلام في الفن والثقافة والنظريات، تلك الجماعة سماها جماعة »القلعة«، منها سيرياليون ورومانسيون حالمون وخواجات، تقودهم سيدة أجنبية اسمها »هانيا«، وكان يقود تلك الجماعة شخص اسمه نصيف، وكانت الجماعة غارقة في تعاطي المخدرات، وشرب الخمر، وكان بعض أفرادها يكتبون الشعر التافه، ذلك الشعر الذي لا يمت إلي الواقع بأي صلة، وأكاد أجزم بأن عادل كامل كان يشير بجماعة القلعة، إلي تلك المدرسة السيريالية التي كانت تضم بين أعضائها جورج حنين وأنور كامل وألبير قصيري وجويس منصور وفؤاد كامل وغيرهم، حيث إنه يشير بشكل واضح إلي أن أحدهم اعتبر أن »مليم« أصبح زوجا له، بل إنه أصبح زوجا للجماعة كلها، وهذه إشارة واضحة إلي نزوع الكاتب ألبير قصيري نحو المثلية وممارستها.
تتطور الأحداث بشكل درامي، ليلتقي خالد بمليم، بعدما استطاع مليم أن يهيمن علي الجماعة ومصيرها ومقدراتها، وأصبح يستخدم هانيا في أعمال وضيعة مدنسة، وكان خالد فريسة لمليم في ذلك الشأن، ولكن كان خالد فضوليا للدرجة التي أوصلته لمقر الجماعة، وبعدها انضم إليهم، فهو يشبههم إلي حد كبير، وراح يستمع إلي أحاديثهم العجيبة، تلك الأحاديث التي لا تنشد سوي الكلام في النظريات المجردة، دون ربطها بالواقع، وكان هناك شخص يعمل بحماس مع تلك الجماعة، ولكنه كان يعمل في الوقت نفسه مع البوليس السياسي، وتم القبض عليهم جميعا والزج بهم إلي السجن، بمن فيه خالد الذي حاول أن يثبت أنه واقعي، وراح يكتب بيانات بلهاء ويقرؤها في المقهي.
وبعد سنوات قليلة، يلتقي خالد بمليم، بعدما عاد خالد لوالده، مستسلما لحكمته التي تعيش تحت سقف الثراء، ويتزوج مليم بهانيا الخوجاية، بعدما سمي نفسه الحاج محمد بك سلام، وأنجب مليم الأصغر، وكان قد أصبح ثريا جدا بعدما صار يتاجر في السلاح أثناء الحرب العالمية الثانية...
ودون تفصيلات أخري لمجريات الرواية، فهي تحمل أبطالا مشوهين، في واقع شبه غرائبي، وبالطبع كان عقد الأربعينيات عقدا شائكا من حيث الأحداث السياسية الشائكة، ولكن الرواية تفرط في بناء حياة أكثر غرائبية، وتجمع ما لا يجتمع بالفعل، ونلاحظ أن عادل كامل الروائي يفرط في إدانة المثقفين، ويأسه من قدرتهم علي إبداع مستقبل مشرق، وأعتقد أن تلك النظرة التشاؤمية هي التي قذفت بأحلام عادل كامل إلي حد اليأس، وجعلته لا يعود إلي تلك الحلبة بشكل كامل، حتي أعاده بعض أصحابه إلي النور، عندما عثروا علي رواية، لا يدركهو نفسه متي كتبها، ليعود عادل كامل مرة أخري إلي عالم النسيان بضراوة، رغم أن جميع كتاباته تعطي مؤشرا عميقا علي فهم مرحلة الأربعينيات وتناقضات وكافة وجوه التيارات التي كانت فاعلة في ذلك الوقت، لذلك فمن العيب والعوار ألا تكون أعمال عادل الكامل كلها بين أيدي المصريين، الذين سيعرفون قدر هذا الكاتب الذي ألقي حجرا ثقيلا في مياه الحياة الثقافية ومضي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.