العمامة الزرقاء "ما اسمك أيها الغريب؟" هكذا قال العجوز الذي كان يستند علي عكاز غليظ للطفل الصغير. قال الصغير "لستُ غريبا. أنا حسن" لكن العجوز بدا شاردا ومتعبا، وقال "حسن من؟!"، فأجاب الصغير "ابن صالح الصياد، الجميع يعرفون أبي. وأنت أيضا تعرفني". لم يبدُ العجوز في حال جيد. وقال "حسنا تعرف بيتي. خذني هناك". لكن الصغير ركض بعيدا وصاح قائلا "لا أستطيع!". ووقف في نافذة البيت الطيني المقابل للنيل، يراقب العجوز وهو يكاد يمشي، أسفل الشمس الحارقة، مرتديا عمامة كبيرة. تعجب حسن كيف يستطيع أن يتحمل ثقلها؟ ولم يكذب حدس الصغير إذ سقط العجوز، وتمرمغ في التراب، وازدحم السوق، وبدا جليّا أن العمامة هي من قتلت العجوز. في اليوم الثاني. بدت أشجار القرية الصغيرة التي تقع علي شرق النيل سوداء. لأن غربانا كثيرة تجمعت علي أغصانها وأوراقها. وعرف الصغير أن الموت أمر مثير؛ لأنه حين يتلصص علي البيوت في الليل يسمع نواح النساء وتعديدهن، نواح حزين، آت من الروح مباشرة، الروح البعيدة التي لا يعرف مكانها. وراوده شعور خفي بأن الغربان السوداء والرمادية فوق الشجر ما جاءت من القري المجاورة إلا لتسمع هذه التعديدات وترحل. وفي اليوم الثالث، سأل الصغير والده "من مات بالأمس؟". فأجاب والده بسرعة "السادات، رئيس مصر". فخاف الصغير وقال في سره :"يا ربي. لماذا لم أساعده؟". ومشي في شوارع البلدة وسمع الناس يتحدثون عن ميت آخر. وعرف أن مصر لا يحكمها رئيس الآن لكن البلدة لا تبالي. لأن الرجل ذا العمة الكبيرة أهم لدي القرية من الرئيس المؤمن. وعندما عاد إلي الدار أخبر والده قائلا "الغربان في كل مكان"، فأجاب "لا أحبها؛ ستأكل محصول الحقول ولن تشبع". وصدق عم صالح إلي أبعد حد. مكثت الغربان في القرية ولم ترحل. بعدها بسنوات عرف الصغير أن لا شيء مثير في الموت. مات الكثيرون، ولم تحزن القرية أو تشعر بهم. غرق خالد في النيل وهو يطارد ليلي الجميلة، وغرقت ليلي بطريقة غامضة بعدها بسنوات، ووالده الصياد الذي يعوم في النيل مثل سمكة غرق. أخرجوا جثة زرقاء وجاحظة العينين؛ كأنها لم تر ملاكا وإنما شياطين فقط، وقالوا "هذا أبوك" فلم يصدق، صدق فقط أن النيل فاتن لكنه - لمن أمعن النظر- ليس سوي مقبرة كبيرة. الصياد وعروس النيل في اللحظة التي اصطاد فيها أول سمكة كان والده يري عروس النيل للمرة الأولي. أمسك حسن بالسمكة ورفعها، أمام بصره، ونظر في أعماق عينيها. كانت عينين غويطتين، فيهما بعض البرودة واليأس، وتنظران إلي العالم بجمود. وضع السمكة بجواره علي الأرض وانتظر منها حركة، هز ذيلها، لعب في فمها. وأدرك أنها كانت ميتة قبل اصطيادها. "وربما غرقت"، قالها وعرف أنها فكرة غبية وقرر إعادتها إلي النهر. وضعها علي السطح وراقبها وهي تقع بانسيابية إلي القاع، وقرر أن ينزل مثلها ويغوص في النهر، وألقي بالجلباب في الهواء، قفز، تطاير الرذاذ، ورأي أسماكا كثيرة، بشتي أحجامها، وصخورا. فكر "لماذا تكون سمكتي الأولي ميتة؟". ورأي أيضا شبحا أزرق، يقترب وينقض. كان الشبح لخالد، كان مخيفا، كان شفافا كالماء وأزرق. حاول أن يصعد هاربا لكنّ يدي خالد منعتاه، بحث عن صخرة تنقذه، يضرب بها رأس الشبح ويهرب. رأي صخرة صغيرة أسفل قدمي ليلي، كانت واقفة وفي نظرتها حزن. انتفض لما رآها زرقاء هكذا، صرخ، شرب الماء، شَرِقَ ، وجد يدا تمتد بالصخرة، نظر إلي صاحبها، كان والده، كان شفافا كالماء وأزرق، خاف أكثر، ضرب الماء ليهرب، صفع وركل ولعن الماء كثيرا. لم تكن السمكة التي اصطادها عم صالح ميتة، بل كانت سمكة حقيقية، وفاتنة، ولها ألوان زاهية، بشعرها المحنّي بالبني وعينيها الخضراوين بزغت فجأة من النهر بينما أشعة الشمس تتلألأ من حولها. صاح مندهشا "عروس نيل ريفية!". جسدها طيني أسمر، مشطور إلي نصفين، نصف ينتمي إلي عالم الإنس والآخر إلي عالم السحر والأسماك. لها نهدان منتصبان ومن الأسفل يتغطي جسدها، ومؤخرتها، بقشور ملونة وجميلة حتي ذيلها الطويل. قبل أن تكشف عن نفسها ارتطم القارب الخشبي بها وسمع الصياد صوت تأوه أنثوي "أي!". وكذب ما سمع. أمسك بعصاه وبدأ يضرب بها النهر ليجذب الأسماك نحو الشبكة. "لا أستطيع الخروج!". هذه المرة صدق أن هناك صوتا. استند علي حافة القارب الخشبي وألقي نظرة، ورآها مسجونة في الشبكة. قالت بدلال "هنيئا لك. لقد أمسكت بي!". تأملها باندهاش قبل أن يقول "أنتِ؟". فأجابت ببساطة "أنا، أنا عروس النيل. امرأتك". ولم يجد صعوبة في التصديق، قال "إذن الخرافة حقيقية". فسألت كأنها لا تعرف "أي خرافة؟". فأجاب "أنتِ!". ولم يشأ أن يخبرها أن كل أحاديث الصيادين عنها حتي لا تغتر، لكنها قالت "لا تُخفِ شيئا . أستطيع أن أقرأ أفكارك". وسكتا قليلا. كان عم صالح يفكر أن لا يفكر، فعرفت، قالت ضاحكة "لا تريد أن تخرجني من الشبكة حتي لا أهرب"، فقال "صحيح!"، قالت "لكنك تعرف أنني لن أفعل"، فسألها "لم؟". فأجابت "لأن من يمسك عروسا يملكها إلي الأبد. أنت تعرف الخرافة، جميع الصيادين يحفظونها جيدا". وصدقها، وعندما أخرجها عادت إلي الماء. فصاح كالطفل "لكنكِ وعدتني!"، وانتظر ردها، انتظر طويلا. ولما يئس من عودتها بدأ يجدف بالقارب للعودة إلي البلدة فسمع صوتها من ورائه "أبهذه السهولة ترحل؟". فصاح غاضبا "لا تتلاعبي بي". لكنها أطلقت ضحكة صافية كالماء، وبها نسي لم غضب منذ قليل، وصاح مندهشا كأنما اكتشف وجودها للتو "عروس نيل ريفية!". فضحكت بدلال وقالت "هنيئا لك أيها الصياد العجوز. لقد أمسكت بك!". عندما عاد إلي البلدة رأي ولده هناك، أسفل شجرة الصفصاف، يلعب بالطين. كتلة من الطين شكلها علي هيئة إنسان. وضع لها أربع حصي صغيرة من ورق الشجرة، في موضع اليدين والقدمين، وزلطة في موضع الرأس. ونفخ بكل ما يملك من قوة علي أمل أن تنبت فيها روحا. دهسها عم صالح ونهره غاضبا "أيها الغبي، لا يلعب بالطين سوي رب الطين!". فنهض الصغير غاضبا وصاح "لقد قتلتها!". ثم ابتعد عن والده للعب في مكان آخر. لم يكن يقصد أن يخلق إنسيا جديدا. كان فقط يريد أن يجد إجابة واحدة: من الطين خلقنا، والماء، وورق الشجر، فمن أين جيء بالدم في عروقنا؟ ولماذا يصير لوننا أزرق حين نموت أو نحزن؟ كان يحاول نسيان أمر السمكة الميتة وما رآه من أشباح. ولم يفهم ماذا كان يفعل والده مع الموتي؟ أمسك بكتلة طين أخري وقال بصوت حزين "ليلي". وبدأ يشكلها علي صورتها. دموع تسقط علي جسدها وهي تبكي، تقول "مات خالد يا حسن". فيحتضنها هناك عند النهر ويقول "سيصحو، أبي قال هذا". فتبكي أكثر وتقول "أنا أكبر منك، لا يصحو الموتي". يسألها مندهشا "كيف؟ سيصحو...أبي قال هذا. صدقيني!". تترك جسدها يتهاوي علي ركبتيها وترتعش، فينظر إليها مذعورا وقد أدرك، يقول "يا ربي. لن يصحو خالد حقا!". ينفخ في طين ليلي بقوة أكبر، ويعدل من ذراعها ورأسها، يقول "ربما تنقصها عيناها الجميلتان". لا ييأس. يقرر إعادة تكوينها من جديد، لكن صوت غناء والده الآتي من بعيد يقطع الخلق. يقترب الصوت أكثر. يعرف هذه الأغنية. يسمع "الدنيا غربتني وأنا الشاب الأمير" فيضحك. يسأل والده ما إن يراه "أنت الشاب الأمير؟" فيضحكان معا. يقول عم صالح "عشت كثيرا لكنني لم أر مثل ما رأيت اليوم". يسأل حسن "ماذا رأيت؟". فيشرد والده في نهديها ويقول خجلا "لا... لا أستطيع؛ لن تفهم". يرد حسن غاضبا "لماذا؟ ". فيجيب عم صالح ببساطة "لأنك صغير". فيصيح حسن "لست طفلا، عمري عشرة أعوام، سأفهم، احكِ لي والنبي". حكي والده كل شيء بالتفصيل، ابتداء من ارتطام القارب بشيء ما، ولون أشعة الشمس في الماء، وشعوره بالخوف لما سمع صوتا يتكلم في النهر. لم ينسَ شيئا من التفاصيل. ظل الصغير متشوقا للحكاية لكن والده سكت فجأة، فسأله، سأله خائفا "وماذا كان؟ جني؟ عفريت؟". استرخي والده بظهره علي جذع شجرة، وقال "كانت عروس نيل"، فكرر الصغير وراءه مندهشا "ياه! عروس نيل !!". فهز والده رأسه مؤكدا وقال باعتزاز "نعم. عروس نيل ريفية". ظل يجدف حتي عرض النهر، وتأكد أن لا أحد يراه من الصيادين فاطمأن، ناداها هامسا "يا .. أيتها ال..". ولم يعرف بماذا يناديها فأكمل "سمكة"، ورآها تخرج ضاحكة إلي السطح وهي تهز شعرها البني، فنظر إليها مسحورا وسألها "ما اسمك؟"، وظلت تسبح علي الماء وهي نائمة بظهرها، تضرب النهر بذيلها فيتطاير رذاذ الماء الملون. يا لجمالها! بحركة صغيرة منها تجعل الدنيا قوس قزح. قالت بدلال وهي تحرك كتفيها "ما رأيك لو سميتني أنت؟". فرفض بسرعة وقال "لا، ستكون هناك امرأة حتما تحمل مثل اسمك، وهذا لا يليق بك"، ولم يعرف متي صار حكيما هكذا ! قالت "ليكن روح". فردد وراءها مأخوذا من جمال نطقها لاسمها "روح!" ،وسألها الصعود إلي القارب فقالت "سأفعل لو أمسكت بي". وقفز وراءها يطاردها حتي لهث. يسبح فتغوص، يغوص فتظهر علي السطح. تضحك وهي تراه عاجزا عن إمساكها. تقول ضاحكة "تريد أن تمسك سمكة، لن تقدر!". وتعب وصعد إلي القارب وقال "لن أفعل، لا أريد". وصعدت وراءه مشفقة علي رجلها وقالت "حسنا، تذكر أنني أقرأ أفكارك، وأنك لا تتقن التمثيل". وما أن صعدت حتي أمسكها وقال "خدعتك"، فضحكت ببراءة قاتلة. لكنها لم تلبث أن قفزت من القارب، سألها عن السر، فقالت "تريد العودة بي إلي البلدة". سألها متعجبا "وما المشكلة؟ هناك سأتزوج بك!". فضحكت من سذاجة صيادها وقالت " تزوجني هنا". فسألها بدهشة أكبر "أين؟"، فأجابت وهي تستلقي بظهرها علي الماء "هنا في النهر"، سألها "ولماذا لا تأتين معي؟". فقالت "أنت تعرف الخرافة جيدا، جميع الصيادين يعرفونها، تتزوج بي فتصير ابنا للبحر ونصف سمكة مثلي". قال وهو يستعطفها "لكنني لا أريد أن أصير نصف سمكة، لتكوني أنت امرأة كاملة، أرجوك". فهزت رأسها وقالت بدلال "لا، لا، لا، إن رآني الناس وضعوني في السيرك!". ولم يعرف كيف تحمس فجأة وشعر بالقوة وقال "سأحميك، أقسم لك". فابتسمت وقالت "آه يا صيادي العجوز القوي، حسنا إن غيرت القرية سأعود معك. هذا وعد". رائحة البحر حياة مديدة عاشها جد نصر الدين. عاصر فيها ملوكا مثل :عباس حلمي الثاني، وحسين كامل، وفؤاد الأول، وفاروق الأول. ولم يحفظ يوما أسماءهم. شهد انتقال مصر إلي الجمهورية ولم يعرف سوي اسم ناصر. مات الجد في عمر الثمانين وترك حفيده صغيرا، بالثامنة من العمر، في دنيا كبيرة. ولم يكن الصغير يعرف في الدنيا سوي جده. ولم يخبره الجد أن والده حيّ ويعيش في آخر البلاد. كان الجد حزينا عندما أخبره ولده بأمر الرحيل. قال "الدخيلة مدينة كلها خير. حتي نابليون عرف هذا ودخل مصر من شاطئها". ابن ضال يتبرك بالفرنسيين ويترك بركة والده التي يسافر لأجلِها الدراويش بلادا. وسافر ولم يبالِ بسخط الجد. ترك أم نصر الدين تلده دون أن يكون بجوارها. وماتت بعد الولادة، فلم يقم لها سرادقا أو يتذكر وجهها. وفي الدخيلة عاش سنة كاملة. رأي آثارا رومانية وقلعة مهجورة ومدفعين علي البحر من القرن السابق. وانتقل ليعيش في الإسكندرية ويعمل في مينائها. الإسكندرية مدينة كبيرة، هادئة، وفيها نساء جميلات. نساء آتيات من بلاد الثلج وشبقات إلي النار. لهن سيقان طويلة بيضاء، ويرتدين ملابس قصيرة. لم يكتف بالفرجة عليهن وضاجع منهن عددا. وكان الجد يعرف. يراه، مثلما كان الله في السماء يراه. يتحسر، يبكي، يستغفره فلا يغفر. وعندما رأي الصغير، بعد يوم من موت الجد ، ضخم الجثة هذا يقترب من الدار توجس، وفزع لما وجده يسقط باكيا ما إن رآه. وراقبه وهو يحاول النطق، بلسان مرتعش وعينين دامعتين، ويفشل. وفكر أن يعدو إلي القرية ليستنجدها لكن الناس كانوا يعْدون من بعيد ويصيحون "عاد أيوب! عاد والدك يا نصر". ومدحوا أيوب كثيرا وظلوا يختلقون الأعذار والحجج لولده حتي إنهم قالوا "ظنناه مات في الحرب. والدك أنقذ أرضنا من اليهود". وما إن صدق نصر الدين واطمأن وغفل طالبوا أيوب بالديون القديمة والأموال التي لم يردها. فقال بعينين دامعتين "بالأمس رأيت رؤيا لن أنساها. رؤيا طهرتني من ماضيّ. أيوب تاب عن الحرام. فاشهدوا". ووعدهم بأن يرد أموالهم في النهار وطلب منهم المغفرة. فغفروا وهللوا. وقبل الفجر أيقظ ولده وسافرا والناس نيام.