نحن لسنا سورياوالعراق، نحن في حال أكثر بؤسا، لأنه علي الأقل هناك غزاة يقومون بشكل ممنهج بإخفاء كل ما لدي البلدين من حضارة، أما نحن فبأيدينا نفعل هذا. أليس من الأوقع أن تغير الحكومة اسم وزارة الآثار لتلبي النشاط الجديد لها، من مسؤوليتها الأولي في الحفاظ علي الآثار وصيانتها إلي متعهد أفراح ينافس الفنادق والقاعات في استقدام الزبائن إلي الأماكن التي تقع تحت نطاق سلطتها والتي لم تجد قبل الآن وسيلة للاستفادة منها، وربما لم تكن تعرف لها فائدة إلا أن الأجانب ينبهرون بها في زياراتهم، فلما انقطع تدفقهم علي البلاد لم تعد سوي أبنية كئيبة فارغة من الزوار، لكن الآن، وبفضل التفكير خارج الصندوق، عادت إليها الحياة. نجحت الوزارة في أولي تجارب نشاطها الجديد، حيث أقامت "فرحين" في قلعة قايتباي بالإسكندرية، نعم، بالضبط، إن لم تكن سمعت بالأخبار فهذا ما تم بالفعل، وليس لدي أسماء هؤلاء العرسان المحظوظين الذين أقاموا ليلة العمر في واحدة من أقدم القلاع التاريخية القائمة في المنطقة، لكن لا بد أن الوزارة قد احتفظت بأسمائهم لتضمهم هم ومن سيليهم إلي السجل التاريخي للمكان لمن يريد الاطلاع عليه فيما بعد، وللطلبة أيضًا في المدارس الذين يدرسون تاريخ بلدهم، سؤال: إضافة لكونها واحدة من الشواهد الأساسية علي قوة الحضارة الإسلامية، وأنها كانت الحامية التي تحرس مصر من ثغرها الشمالي، فقد أدخل إليها في عام 2016 تقليد جديد عبر إقامة الأفراح في باحتها الداخلية. اذكر من بناها ولماذا، أهميتها العسكرية في عهد المماليك والعثمانيين، كيف جددها محمد علي الكبير، ولماذا تعد من أهم القلاع علي ساحل البحر المتوسط، وفي نهاية إجابتك اسرد لنا كيف أقيم بها أول "فرح"، من العروس، ومن العريس، ومن هو ال"دي جي" الذي أحيا الحفل؟ كيف نبتت الفكرة في أذهان المسؤولين؟ إدارة التنمية والوعي الأثري بمحافظة الأسكندرية أصدرت بيانا أجابت فيه: العروس تقدمت بفكرتها إلي وزارة الآثار، والوزارة وافقت بعد عرض الفكرة علي السلطة المختصة، ووضع الاشتراطات والتعهدات بعدم المساس بالأثر. الذنب لا يعود علي العروس بالطبع ولا المدعوين، الجميع يرغب في الحصول علي يوم مميز، أعرف من يتمنون الحصول علي ليلة في إحدي غرف الهرم مع رفيقته بإيمان أن البناء تم تصميمه في الأصل لمضاعفة القوة، وهم علي استعداد لدفع ما تريده الوزارة، وهناك من يعتقد أنه وسيلة لإطالة العمر، أو أنه نقطة الالتقاء بين السماء والأرض وأنه هناك يمكنهم تلقي الإلهام الذي انتظروه طويلا. أظن أن تلك الطلبات وغيرها لا توجد فيها مشكلة طالما ستدر دخلا علي الوزارة وتحقق الشرط بعدم المساس بالآثار، وأي طقس من هذا سيقام تحت سمع وبصر مفتشي الآثار الذين سيضمنون أن لا حجر تحرك من مكانه. ماذا؟ ما الفرق؟ أن حفلات الزفاف شرعية بينما بقية الطقوس التي ذكرت بعضها قد تقع في نطاق مشكوك في شرعيته أو أخلاقيته؟ ستدنس الآثار مثلا! فلنكن عمليين، وفق البيان فإن المطلوب أن يدر النشاط دخلا ولا يمس بالأثر، نحن بوضوح نسعي للمال بأي طريقة، فليكن إذًا، هل سيكون المانع مثلا قدسية الأثر، وضرورة تناسب النشاط المقام فيه مع هيئته ومعماره، وزارة الآثار لم تفكر في هذا، علي العكس، هي تقارن بين حفلات الزفاف وبين حفلات غنائية وندوات أقيمت في قايتباي سابقا، وتري أن هذه الحجة كافية لإقناع المعترضين، تغافلت، وهي الأدري، بالفرق بين نوعين من الجمهور، أحدهما سيجلس في هدوء للاستماع إلي مقطوعة موسيقية أو إلي محاضرة ضمن ندوة، وبين مدعوين جاءوا للاحتفال بالعروسين، وفي الأفراح المصرية، كما يعلم الكل، فإن البهجة لا تعم والشرط الشرعي للإشهار لا يكتمل إلا بأكبر قدر من الضجة والصخب. في تعليق علي الموضوع بأحد المواقع الإخبارية قال أحدهم داعما الفكرة أنه يتمني تنفيذها في أسوان حتي تنتهي مسألة تأخر الرواتب في الوزارة. هذه وجهة نظر لا بد من احترامها بالكامل، وهي تدعم رؤية الوزارة، لا صوت يعلو علي صوت المال، لدينا موظفين تتأخر رواتبهم وأثر قابع بلا حياة ولا فائدة، لماذا لا نستخدمه في إدخال السعادة علي قلوب الناس وفي جني بعض الأرباح، ما الضرر؟ حكموا ضمائركم قبل أن تحكموا. والكلام هنا للمعترضين من مثقفين، ونواب شعب، وبعض أهالي الإسكندرية الذين تصاعد غضبهم إلي حد تدشين هاشتاج علي مواقع التواصل الاجتماعي عنوانه "القلعة مش قاعة أفراح"، وهو من وجهة نظر المشاركين فيه محاولة لإنقاذ آخر طوابي الإسكندرية، مؤمنين بأن تحويلها لصالة أفراح بحجة زيادة الدخل يدل علي فشل وعقم تفكير القيادات في التطوير وزيادة الدخل. علي الأغلب حققت الوزارة نجاحا كبيرا، أصبح لديها قائمة طويلة برغبات لاستغلال القلعة كقاعة أفراح، هذا حدث نتيجة التغطية الصحفية والمتابعة للقضية، بالطبع العرسان أصبحوا يرون في الأمر دعاية مجانية، غدًا ستتصدر صورتهما في الكوشة الصحف والمواقع الإخبارية، حدث العمر يتم تغطيته إلي جانب الأحداث السياسية الساخنة، ثم، من يمكنه مقاومة إغراء أن يقام فرحه في المكان الذي سار وتجول فيه السلاطين وقادة المعارك الحربية، حيث ترقص جنابك بالتحديد سقط أحد الجنود وهو يدافع عن الإسكندرية، وعوضا عن موسيقي المهرجانات هذه لم تكن تعزف هنا إلا الموسيقات العسكرية. لكن، قد لا يكون كل هذا إلا مبالغات، في العالم كله نعرف أن الآثار يتم استغلالها، لا قلعة أو قصر إلا وهو مسكون والأنشطة مختلفة ومتعددة، وقد يكون من بينها إقامة الأفراح، ولما لا طالما الشرط الأساسي وهو الحفاظ علي الأثر يتم تحقيقه، هذا في الخارج، فهل تظن أننا في مصر نملك من الوعي الأثري ما يجعلنا نستطيع التعامل مع الأثر دون تشويهه، هل بإمكاننا التعايش وفق قواعده ومنطقه؟ بالطبع لا، وشاهد آثار مصر القديمة علي سبيل المثال، فكيف سيكون الحال مع الإقبال الكبير علي القلعة، هذا الإغراء الذي لن تقاومه وزارة الآثار، لا بد أن وزيرها يحسب الآن حجم المال الذي سيتدفق علي خزانته، وإذا خطرت علي ذهنه صورة لأحد مدعوي حفل الزفاف وهو يدمر شيئًا سيفكر ساعتها ولما هناك إدارة للترميم إلا إن كانت من أجل هذا. لسنا العراق أو سوريا، حيث دخل الغزاة وأحد أهدافهم الرئيسية القضاء علي الحضارة الموجودة بادراك أن تلك الحضارات تعني أن البلد القائم لديه تاريخ طويل، أنه أحد مكونات الإنسانية، وبلا تلك الشواهد لا يصبح للحدود والأرض أهمية ما، يمكن تقسيمها والإدعاء بأي شيء، أو علي الأقل تركها هكذا غارقة في بدائيتها، مجرد مستهلك لما تنتجه الحضارات الأخري، الثقافة والتاريخ اللذان تستند إليهما هما صوتك العالي، ومبررات وجودك، علي هذا الأساس تابعنا عمليات تجريف الآثار، شحن ما يمكن خارج ذلك البلدين، بيعهما لمتاحف وجهات ستعمل مستقبلا علي تزييف تاريخ خاص بها، وما لم يمكن تهريبه أو بيعه جري وسط سمع وبصر العالم تحطيمه وتفجيره بالصواريخ والقنابل. نحن لسنا سورياوالعراق، نحن في حال أكثر بؤسا، لأنه علي الأقل هناك غزاة يقومون بشكل ممنهج بإخفاء كل ما لدي البلدين من حضارة، أما نحن فبأيدينا نفعل هذا، ليس لدينا شواهد تاريخية أو قلاعا وحصونا.. لدينا قاعات أفراح.