"وكما يموت الناس مات"، أول ما خطر ببالي عندما بلغني خبر رحيل جمال الغيطاني، ظل بيت الشعر ذاك يرافقني طوال اليوم بينما تتوالي التأكيدات علي صحة الخبر، البيانات الرسمية، كلمات الأصدقاء الحزينة علي مواقع التواصل، وأخيرا جسده في التابوت، استسلم في معركته الأخيرة التي دامت ما يقرب من الشهرين، وهو الذي لم يخسر قبلا معركة مهما كانت ضراوتها، لا يليق الاستسلام به، كان منتصرا وحيا علي الدوام، لهذا، وبينما كان يمر من أمامي في صندوق لا يليق به لمحت ابتسامته، الابتسامة التي تحبها لكنك لا تفهم ما وراءها، هل يسخر منك لأنك لم تفهم؟ بالطبع، وهذا ما يتسق مع المنطق، ومع شخصيته، لم يعد لأنه وجد هناك، علي الضفة الأخري ما يغريه بالبقاء عليها، ربما التقي واحدا ممن يحبهم وهم كثيرون، نجيب محفوظ غالبا كان في طليعة مستقبليه، تخلي عن روتينه اليومي، الذي لا بد أيضا أوجده هناك، لأجل تلك المناسبة، هل يمكن تفويت لقاء كهذا والعودة للدنيا، أظن لا، ربما وجد أيضا من يجيبه عن أسئلة حيرته طويلا، من يمنحه سر الزمن ليعرف أخيرا أين ذهب الأمس، سؤاله الأثير. ما الذي وجده أيضا علي الضفة الأخري، وكان مثيرا إلي الحد الذي جعله زاهدا فيما كان يثمنه هنا.. هذا ما يسرح عقلي فيه. كنت أظن أنه يملك قوة سحرية ما، تعينه علي خوض الصراعات، وعلي الكتابة بلا توقف، والتأمل بلا انقطاع، والسفر كرحالة إلي أراض سبقها إليه غيره لكنه يري فيها ما لم يروه، يلتقي بأناس من كل الاتجاهات والمستويات، صديق للسفير والغفير، يعتبره المريدون في مراقد الأولياء صوفيا زاهدا، والسياسيون يسمعون منه ما خفي عنهم، وبين الكتاب والمثقفين هو من جاء للأدب العربي بنص مختلف جرئ أعاد إليه الحيوية بالانتباه والوعي بأن التراث وقبل أن يكون السند الطبيعي في لحظة فقدان الهوية فهو، وهذا هو الأهم، مصدر حيوية وحياة لا تنقطع. في إحدي غرف الهرم الأكبر قضينا (أسرة أخبار الأدب) ليلة كاملة برفقته، مغامرة صحفية بالتعبير الدارج، كان هو صاحب الفكرة، لم أعرف يومها علي وجه الدقة ما نفعله، ومهابة المكان أصابتني بالخرس فلم أكتب حرفا في العدد الخاص الذي صدر عن تلك المغامرة، وقد تفهم ذلك، لكني كنت موقنا أنه يمارس طقسا ما، تأكد لي ذلك ونحن نخرج من قلب الهرم إلي ضوء النهار متعجلين، نسرع للراحة أو لتناول الطعام، لكنه استوقفنا قائلا إن مغادرة الهرم بتلك الطريقة لا تليق، وقفنا علي حافته نحاول رؤية ما ينظر إليه، ضوء الفجر يزحف علي أرض لا تعرف أي سحر كان يجري عليها، نتطلع إلي السماء من فوق أحد أعظم ألغاز البشرية، لحظة ستبقي للأبد، وكأن النور لم يسطع إلا في ذلك اليوم، كل النهارات متشابهة إلا هذا، ذلك كان "الخروج إلي النهار"، لم يكن ينقصنا إلا قراءة صفحة من "كتاب الموتي" ليكتمل طقس تعميدنا. مع جمال الغيطاني كل شئ كان يبدو أفضل جدا، كنت صغير السن وقت أن تعرفت إليه، طالب في السنة الجامعية الثانية، مغرم بالصحافة والكتابة، أبحث عن الصورة التي رسمتها في خيالي للكاتب والصحفي ولم أجدها إلا عنده، لم يسألني، أنا أو أي ممن عمل معه، من أين أتيت، من سندك في الدخول، كانت الأمور عنده أكثر تعقيدا من هذا بمراحل: ماذا تكتب، هل لديك أفكار لموضوعات وحوارات، ما رأيك فيما يحدث، ماذا تقرأ، ما الموسيقي التي تحبها؟ وإن كان لديك ما تقدمه له، ما يقيم حوارا ويثري مناقشة وينتج مادة صحفية مغايرة، ساعتها تصبح عزيزا لديه، زميلا وصديقا وأخا، لك مثل ما له في المكان، لا أستاذية مفروضة، ولا درجات وظيفية تقف مانعا أمامه بحيث يعطيك مسؤوليات لا يحوزها في الصحافة عادة إلا الكبار وأصحاب الخبرة وأهل الثقة، استحداث أبواب في الجريدة والإشراف عليها، ولا يجد ذلك كافيا في استخراج كل ما لديك فيقترح أن تكون بين الحين والآخر، رئيس تحرير لعدد كامل، تأتي بفكرته وتتولي إصداره إلي النهاية من الغلاف إلي الغلاف، وبتواضع صادق يقترح عليك ما يريد أن يكتبه. لم أصادف أحدا بعد جمال الغيطاني، ككاتب وصحفي، يملك ثقته، قوته، التي تسمح له بمنح من حوله المساحة التي يمكنهم من خلالها أن يكونوا ندا له، لم ألتق من لديه هذا الإيمان المطلق بما يكتب، اختلف معه إن شئت، عارضه إذا أحببت وهو يسمع وربما علي ضوء ما تقول يجري بعض التعديلات لكنها أبدا لا تطال جوهر ما يراه والذي يوافق كل ما يبحث عنه أي كاتب عظيم الشأن.. الحرية، بمعناها الأشمل والأوسع، تلك التي تسمح له أن يتنقل بين ثقافات مختلفة دون أن يري التعارض الذي يطمس عقول آخرين فلا يتمكنون من التوفيق بينها، الفرعونية والعربية، العربية والفارسية، الشرق والغرب، ثنائيات لم يرها من الأصل فانفتح أمامه كتاب لم يشبع يوما من التقليب في صفحاته. في فترة من حياتي طابت لي حياة الليل، أنام والناس في أعمالهم، وأصحو وهم يعودون إلي بيوتهم، أحببت التفكير أني علي مسار والعالم علي مسار آخر، غاضب وغير راض، وهو تقبل هذا النزق، حتي لو كان فيه تكسير لكل قواعد العمل المتعارف عليها، بل وزاد علي ذلك بتحويل الأمر إلي صفة لصيقة بي تستحق أن يعرفها الآخرون عندما يقدمني إليهم، لكن في المقابل كان غضبه يصبح هادرا إن لم ينتج هذا الاختلاف الثمن المناسب، إن أصبح مجرد عادة غير مثيرة للاهتمام. معه تحول عملنا إلي حالة من الإبداع، دون أن يتحدث أو يقدم تنظيرات ما حول ذلك، يترك لكل واحد اختيار الطريقة التي يريد أن يعبر بها، والمدهش أن ذلك تم دون إمكانيات علي الإطلاق، "أخبار الأدب" ظلت بلا مقر لسنوات، هو نفسه لم يكن لديه مكتبا خاصا به، كان يتقاسم حجرة في الطابق الثامن مع الكاتب الصحفي عصام بصيلة رئيس القسم الفني، حجرة بمكتب واحد، كانت له في الصباح ولزميله في المساء، والحجرة داخل صالة تضم زملائنا محرري الصفحة الأدبية والصفحة الفنية، توافدنا واحدا وراء الآخر عليه، علي هذا الوضع الغريب، كنا ننتهز فرصة عدم وجود أحدهم لنجلس علي مكتبه أو يتقاسم كل اثنين مكتبا، كان يفعل ما بوسعه لتحسين شروط العمل لكن في الوقت نفسه لم يكن ذلك الوضع يصلح ليكون حجة للتأخر في تسليم موضوع ما، أو التقاعس عن طرح أفكار جديدة، الحقيقة أنه لم يكن يحب الأعذار مهما كانت، بعد وفاة والدتي جاء إلي بيتي متعاطفا وودودا للغاية، وبعدها بفترة قصيرة سألني السؤال المعتاد عن الموضوعات والمساهمات الجديدة، اندهشت من طرح السؤال في الأصل، هل نسي؟ ذكرته فكان رده سريعا حاسما "ذلك كان من أسبوع"! الكتابة بالنسبة للغيطاني كانت المعادل للحياة، أحيانا كنت أراه يكتب بالساعات، بلا انقطاع، كان يملك ذلك التدفق الذي يعينه علي هذا، مضافا إليه الرغبة في تفسير والإحاطة بكل ما حوله عبر الورقة والقلم، وكم الموضوعات والأمور التي كانت تشغله من المستحيل علي شخص واحد الجمع بينها، الأمور الإدارية الخاصة بالعمل، وتلك كانت أكثر ما يكرهه لكنه يتعامل معها بينما يحدثك عن البيروقراطية المصرية وجذورها التاريخية. ومثل كل أفراد جيله كانت متابعة الشؤون السياسية التزام لا يمكن الحياد عنه، لم أفهم هذا أبدا، كنت أعتقد أنه لا علاقة للسياسة بالأدب وأن تأثيرها سلبيا عليه، وأن تورط جيل الستينيات السياسي أفسد الثقافة، وبديموقراطية نادرة علي المستوي الصحفي المصري سمح لي بالتعبير عن رأيي ورأي جيلي، في حلقتين ربما أو ثلاث (لا أذكر تحديدا) فتحنا النار علي جيل الستينيات، وردود الأفعال لم يكن يهتم بها كثيرا، يضعها في اعتباره ويدرسها بالطبع لكنها لم تكن تقف بينه وبين أن يعرف، ويكتشف، و"يقلب التربة"، تعبيره المحبب، أن يزيح الغطاء عن الأصوات التي لا تجد الوسيلة للتعبير. بفضل اهتماماته المتنوعة كان اجتماع الجريدة الأسبوعي (المقدس) يتحول إلي ندوة عامة، نقاشات تطول وكثيرا ما تحيد عن مسارها، تمتعنا فيها حكاياته وتعليقاته، ونجد فيها الفرصة لطرح رؤانا حول كل شئ، وبتلك الروح تأسست في "أخبار الأدب" مجموعة من الصحفيين والكتاب، لا فرق بين من يعمل فيها كوظيفة وبين من هو خارجها، الكل مرحب به وبرأيه ونصه، ساحة أفلاطونية الهدف منها الخروج بأفضل شكل للجريدة، لهذا كان طبيعيا أن تكون "أخبار الأدب" في عهده الصوت الثقافي الأهم علي مستوي العالم العربي. لا يمكن بحال تخمين ما الذي يفعله جمال الغيطاني الآن، هل يقرأ كتابا، هل يستمع إلي واحدة من مقطوعاته الفارسية أو التركية المفضلة بينما ينظر إلينا عبر السماء، أم أن كل ذلك لم يعد له من قيمة مقابل معارف مغايرة يمضي وقته في اكتشافها؟ ربما الآن لديه القدرة علي التجوال في الفضاء يشاهده عن قرب بعد أن قضي سنوات حياته مشغولا بمتابعة الاكتشافات والبحوث العلمية حوله، من يمكنه الإجابة، من يملك الشفافية التي تمنحه الإذن بالوصول؟ أعرف أني سأصل إليه وقد أسس هناك عالما خاصا به، يعرفني علي أصدقاءه ممن أحبهم وكان يعتبرهم الأقرب إلي قلبه، هؤلاء الذين عرفهم عبر نصوصهم، والآن يسعد بجوارهم.. ديستوفسكي، المعري، التوحيدي، هيمنجواي، قائمة طويلة لكن الآن ليس عليه أن يقلق من نفاد الوقت وتسرب الزمن، هذه المرة حياة لا نهائية له أن يفعل فيها ما يريد. أعرف أن رحمة الله وسعت كل شئ، وأنه سيشمله بها، يمنحه من كرمه ما تطمئن به نفسه وأكثر، ويوما، ليس ببعيد، سيستقبلني علي تلك الضفة، نواصل حوارا لم ينقطع، نؤسس من جديد مشروعا صحفيا يرصد هذه المرة كيف تبدو الحياة في الجنة.