ليس هناك ما يضاهى متعة الاقتراب على سير الكبار من المبدعين، وما يتيحه لنا هذا الاقتراب من التعرف على مراحل نموهم الروحى والعقلى وخبراتهم الجمالية وتأملاتهم العميقة التى تتكئ على قدر هائل من الحساسية، فضلاً عن مغالبة مشكلات التعبير التى شغلتهم طيلة الوقت، فضلاً عما أضاءوه بأعمالهم من الأزمنة التى عاشوها وما أضافته أعمالهم للمخيلة الإنسانية من غنى.. وأنا أقلب معك الآن أوراق واحدة من هذه السير التى كانت صدرت منذ سنوات لفنان السينما الإيطالى الأشهر «فديريكو فللينى 1920-1993» ذلك المبدع الذى حقق مجموعة الأعمال التى استقرت كعلامات بارزة وفريدة فى تاريخ السينما العالمية كلها. والكتاب فى عنوان «أنا فللينى» (480 صفحة من القطع الكبير) صادر عن وزارة الثقافة السورية فى ترجمة ل«عارف حديفة» وهو عبارة عن أحاديث وحكايات كانت سجلتها صديقته «شارلوت شاندلر» على مدى الأربعة عشرة عاماً التى عرفته فيها والتى امتدت من 1980 عندما التقته فى روما وحتى الأسابيع الأخيرة التى سبقت وفاته فى خريف عام 1993، وهى أحاديث جرت فى مطاعم ومقاه وسيارات باعتبارها الأماكن التى كانت تبهج فيلينى أكثر من غيرها. كان يطلب منها أن تدون مقداراً كبيراً من كلماته حتى يتمكن من مراجعتها لو رغب فى معرفة شىء ما من مشاعره لأن البحث عن الحقائق أسهل من تذكر المشاعر. فالإنسان، كما يرى، لا يتذكر حياته حسب ترتيبها الزمنى، فالنحو أو الطريقة التى سارت عليها هذه الحياة هو الأهم، لأننا لا نتحكم فى ذكرياتنا، وواحدنا لا يملك ذكرياته بل هى التى تملكه. وهو يهتدى بكلمات تقول: «ضع ثقتك فى غرائزك، تكن أخطاؤك خاصة بك. إن الغريزة دليل أفضل إلى الحقيقة من العقل». الكتاب مقسم إلى ثلاثة أقسام هى «فديريكو» و«فديريكو فللينى» و«فللينى». يحكى القسم الأول عن فللينى الفتى وفللينى الشاب الذى تأثر بالسيرك والمهرجين والقصص الهوليوودية المصورة التى طور منها رؤيته ابتداء من كتابته للمقالات ورسم الصور الكاريكاتورية والكتابة الإذاعية إلى الكتابة للسينما. ويروى القسم الثانى حكاية اكتشافه الإخراج كهدف لحياته، أما القسم الثالث فيتحدث عن الرجل الذى تحول إلى أسطورة فى حياته وكيف أصبحت «الفللينية» تعبيراً مألوفاً حتى عند من لم يشاهد له فيلماً واحداً. ولقد كانت شخصيته هى أهم شخصية تناولتها هذه الأفلام إلا أنه كان مهتماً بخلودها أكثر من اهتمامه بخلوده الشخصى، ويقول: أن تكون وحدك، معناه أن تكون أنت نفسك بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، لأنك تكون فى هذه الحالة حراً فى أن تتطور، ليس بحسب ردود فعل الآخرين. فالوحدة شىء خاص جداً، والقدرة على أن تكون وحدك أمر أكثر ندرة. وهو كان يحسد دائماً أولئك الذين يمتلكون من الطاقات الروحية ما يمنحهم استقلالاً، ما يمنحهم من الحرية التى يقول الناس إنهم يفتقرون إليها، والواقع أن الناس لا يفتقرون إلى الحرية فى أن يكونوا وحدهم، ولكنهم يخشونها. نعم: «الناس يخشون الوحدة أكثر من أى شىء آخر فى الحياة». وهم حين يتركون وحدهم لبضع دقائق يبحثون عن أى شخص حتى يتغلبوا على هذه الوحدة. الإنسان بحاجة دائماً إلى نديم. إنه يخشى الصمت وهو وحده مع أفكاره، ومع مناجاته الداخلية التى لا تنتهى طيلة الوقت. وهو يرى أن علينا، بسبب من ذلك أن نحب أصحابنا كثيراً، لأنه الحب الذى يترتب عليه أن لا نخسر أنفسنا بأن نكون متوافقين أو متشابهين معهم، أو أن تكون مهمتنا هى إسعادهم فقط والتسرية عنهم.. لذلك يأسره دائماً أولئك الذين يحبون دون خشية من عواقب.