من المعروف أن التقدم نحو حالة أعظم من النضج هى الآن ظاهرة عمّت العالم بأسره، ومع ذلك فإن هذا لا يعنى أن كل أمم الأرض وشعوبها تتقدم على هذا الدرب بسرعة متماثلة. فعند مرحلة معينة قد تتلاقى الظروف والأحوال القائمة آنذاك فى لحظة تاريخية هامة حيث يمكن لمجتمع ما أن يعدّل من مساره بشكل أساسي. فى أوقات كهذه يكون التعبير عن المشيئة الجماعية ذا أثر حاسم ومستدام بالنسبة لمستقبل البلاد. وقد بلغت مصر الآن مثل هذه اللحظة بالذات، وهى لحظة لا يمكن أن تدوم إلى الأبد. عند هذا المنعطف الدقيق، نجد أنفسنا إذاً أمام سؤال هام وخطير: ماذا نسعى إلى تحقيقه فى هذه الفرصة التى سنحت وحصلنا عليها؟ ثم ما هى الخيارات المطروحة أمامنا؟ فهناك العديد من نماذج العيش المشترك معروضة أمامنا تدافع عنها وتناصرها جماعات من الناس مختلفة ولها اهتماماتها الخاصة. فالسؤال هنا: هل لنا أن نتّجه نحو إقامة مجتمع فردانى ومجزأ، حيث يشعر الكل فيه بأنهم أحرار فى السعى فى سبيل مصالحهم حتى ولو كان ذلك على حساب الصالح العام؟ هل سوف تستهوينا المغريات المادية الدنيوية وعنصرها الجاذب المؤثر والمتمثلة فى النظام الاستهلاكى؟ هل سوف نختار نظامًا يتغذى على العصبية الدينية؟ وهل نحن على استعداد للسماح بقيام نخبة تحكمنا متناسية طموحاتنا الجماعية، لا بل وتسعى إلى استغلال رغبتنا فى التغيير واستبدالها بشيء آخر؟ أم هل سنسمح لمسيرة التغيير بأن تفقد زخمها وقوة اندفاعها فتتلاشى فى خضم النزاعات الفئوية الصاخبة وتنهار تحت وطأة الجمود الإدارى للمؤسسات القائمة وفقدانها القوة على المضى والاستمرار؟ وبالنظر إلى المنطقة العربية - وإلى خارجها فى الواقع – من المنصف القول إنّ العالم، توّاق إلى العثور على نموذج ناجح بالإجماع لمجتمع جديرٌ محاكاته. ولذا لعله يكون من الأجدر بنا، فى حال أثبت البحث عدم وجود نموذج قائم مُرْضٍ، أن نفكر فى رسم نهج لمسار مختلف ونبرهن للشعوب بأن من الممكن فعلاً اعتماد نهج تقدمى حقيقى لتنظيم المجتمع. إنّ مكانة مصر الرفيعة فى المنظومة الدولية - بما لها من تراث فكرى، وتاريخ عريق وموقع جغرافى - يعنى كل هذا بأن مصر إذا ما أقدمت على اختيار نموذج متنور لبناء مجتمعها، فلسوف تؤثر على مسار النمو والتطور الإنسانى فى المنطقة كلّها بل وعلى العالم بأسره. فى أحيان كثيرة، يسفر التغيير الذى يتأتى عن الاحتجاج الشعبى عن خيبةٍ لبعض الآمال. والسبب فى هذا ليس لأنّ الحركة التى ولّدت ذلك العامل الفاعل فى التغيير والتحول تفتقر إلى الوحدة والاتحاد، بل فى الحقيقة فإنّ أبرز خصائص هذا العامل الفاعل فى ضمان نجاحه يتمثّل فى قدرته على خلق الوحدة والاتحاد بين أناس تباينت مشاربهم واختلفت مصالحهم. أما خيبة الأمل هذه فتكون بالأحرى نتيجة إدراك أن اتحاد الناس فى دفاعهم عن قضية مشتركة ضد أى وضع راهن أسهل بكثير من اتفاقهم على ما يجب أن يأخذ مكانه. لهذا السبب بات من الضرورى جدًا أن نسعى جهدنا لتحقيق إجماع واسع فى الرأى حول المبادئ والسياسات العاملة على إيجاد أنموذج جديد لمجتمعنا. وحالما يتم التوصل إلى مثل هذا الاتفاق يصبح من المرجح جدًا أن السياسات التى ستتبع ستجتذب وتفوز بتأييد أفراد الشعب الذين تؤثر هذه السياسات على مجرى شئونهم. إنه دافع طبيعى مُغْرٍ، ونحن نفكر كيف يمكن لأمتنا أن تُكمل مسيرتها، أن نبادر فورًا إلى استنباط الحلول العملية لمعالجة المظالم المُسلّم بها والمشكلات الاجتماعية المتعارف عليها. لكن، حتى ولو برزت أفكار جديرة بالاهتمام فإنّها لن تمثل فى حدّ ذاتها رؤية ذات أثر فاعل فى تحديد كيف نريد لبلدنا أن ينمو ويزدهر. فالميزة الرئيسة للمبدأ هى أنه إذا فاز بالدعم والتأييد فإنه يساعد على اتخاذ المواقف الايجابية، وبعث الفعالية المؤثرة والعزيمة القوية والطموح الناشط. فيسهّل ذلك فى اكتشاف الخطوات العملية وطرق تنفيذها. ولكن يجدر بالمشتركين فى أى نقاش حول المبادئ، أن يكونوا على استعداد لتخطّى مستوى الفكر التجريدى. ففى مرحلة صياغة الأفكار حولها قد يكون من السهل نسبيًا أن يتم الاتفاق على عدد من المبادئ التوجيهية، ولكنها لن تكون أكثر من شعارات جوفاء إذا لم نُخضِعها لفحص دقيق نستطلع فيه عواقبها المتشعبة وآثارها المختلفة. وينبغى لأيّة محاولة للتوصل إلى إجماع فى الرأى أن تساعد على إجراء استطلاع فاحص للآثار الخاصة والأبعاد العميقة المترتبة على اعتماد أى مبدأ من هذه المبادئ بالنسبة لمقدّرات وطننا العزيز. وبهذه الروح إذًا يمكن لنا أن نعرض عليكم بكل تواضع ومحبة المبادئ التابع ذكرها.