بعد الحرب العالمية الثانية قال شارل ديجول فى باريس مقولته الشهيرة، وهو يتهيأ لرئاسة الدولة: إذا كان القضاء بخير ففرنسا فى أمان فهو الدعامة الأساسية للنهوض بالدولة. وفى مصر عام 1954 توجهت مجموعة من البلطجية لمجلس الدولة واعتدوا بالضرب بالأحذية على العالم القانونى والفقيه العظيم عبد الرزاق السنهورى بمكتبه وظل باقى عمره يتألم على ما آل إليه حال القضاء بعد الثورة المباركة..! وقبل أن ينتهى عام 1966 بدأت الصحف القومية الثلاث وقتها تشن حملة ضارية على القضاء المصرى ونُشرت بعض مقالات لكبار المسئولين تهاجم بضراوة قضاة مصر، ويبدو أن الرسالة الإعلامية لم تصل، فبعدها بعامين أو ثلاث تقريبًا نظراً لانشغالنا بحرب 1967 التى تقبلناها على أنها نكسة، نال وزير العدل المستشار عصام حسونة وشاية غدر من بعض المقربين لدوائر الحكم أدت إلى ما عرف وقتها بمذبحة القضاء، فتم عزل واستبعاد أكثر من مائتى قاض من قمم القضاء المصرى، مثل ممتاز نصار وعادل يونس وكمال عبد العزيز وعلى عبد الرحيم حلمى ومدحت سراج الدين، فأحيل بعضهم للمعاش ونقل الآخرون لوظائف مدنية، أو إن شئت الدقة متدنية إمعانا فى إهانتهم! واليوم وبعد ثورة 25 يناير علت أصوات مطالبة بتطهير القضاء..! وهو مصطلح فج لا يليق بوقار وهيبة المنصب أو كرامة المهنة وخلال مائة يوم من عمر الثورة البيضاء ظهرت لافتات سوداء تتوسط الميدان وتحمل صورًا لرجال قضاء، ثم خرج نفٌر منا يطعن فى شرف الآخرين بعد أن قضى عمره كله يتشرف بهم..! ووجدت بعض الأقلام الصحفية ضالتها المنشودة فيهم كمصدر لها فيما تنشره وأسكتت ضميرها الإعلامى باعتبار أن ناقل الكفر ليس بكافر..! إن حالة التخبط التى نمر بها هى نتاج مجتمع خرِب منذ عقود طويلة أصابه الفساد والجهل فى مقتل، وبينما كان الجنرال العظيم ديجول يطمئن على حال القضاء فى فرنسا لينهض بأمته فيصل بها إلى مصاف الدول المتقدمة والمتحضرة كنا نحن على الجانب الآخر نضرب السنهورى بالأحذية داخل مجلس الدولة ونهين قضاة مصر العظام بإحالتهم للاستيداع..! فلم يضرب ديجول قاضيًا ولم يفصل آخر لأنه لم ينضم إلى التنظيم الطليعى الفرنسى!! هذا الفارق فى التعامل مع القضاة فى الماضى بيننا وبينهم هو الذى صنع تلك الفجوة العميقة، التى لازالت تفصلنا عن العالم المتحضر حتى الآن، واستمرار المطالبة إعلامياً بما يسمى تطهير القضاء واستخدام الفضائيات منصة قضاء لإصدار أحكام على قضاة مصر الذين هم فى المجمل كانوا ولا يزالوا صمام الأمان لهذا المجتمع قبل وبعد ثورة 25 يناير سيؤدى بنا إلى مزيد من التراجع وإلى فوضى لن نتمكن من تخيل نتائجها ومن بوادرها مقولة رجل الشارع الآن الذى يريد محاكمة عادلة للمتهمين بشرط أن تنتهى بالإعدام..!! إذا ما كانت هناك حالات خروج عن قيم وتقاليد القضاء فليس مكانها وسائل الإعلام لا لأن القضاة أفضل من عامة المواطنين، ولكن حفاظًا على هيبة وكيان مؤسسة يحتكم إليها هؤلاء العامة وينظرون إليها بعين الاحترام ويطمئنون لاستقرارها وكانوا ولا يزالوا يعتبرونها ملاذهم الأخير واستمرار تناول تلك الموضوعات إعلاميا بصورة فجة يهز الثقة فى أحكام القضاء ويزيد من حالات التطاول التى تنال من تلك الهيبة وحادث تحطيم منصة المحكمة ومحاولات الاعتداء على بعض القضاة الشهر الماضى ليست ببعيدة عن الأذهان وكلها من جراء شحن معنوى قام به نفر منا حتى ولو كان بحسن نية فالنوايا يعلمها الله وحده. نحن الآن نحتاج إلى مساندة حقيقية من مجتمع مثقف واع وإعلام متحضر يعرف قدر القضاء ومنزلة القضاة حتى نعبر تلك المرحلة فى أمان، وإذا ما كانت هناك حالات انحراف بالسلطة أو مهادنة لحكومة أو مسئولين سابقين فيها كنتاج لمجتمع مضطرب على مدار نصف قرن أو يزيد، فمجلس القضاء الأعلى قادر فى هذه الحالة على المحاسبة والتقويم والإصلاح الداخلى فى هدوء دون جلبة أو ضجة إعلامية ولديه من الآليات ما يكفى للحساب والمحاكمة التأديبية والجنائية أيضاً إن لزم الأمر. أما ما نفعله الآن سواء مدحًا بوصف القضاء بالعادل والنزيه والشريف والشامخ.. إلى آخر تلك العبارات المتملقة، أو ذمًا بالتطاول والهجوم بهذا التجاوز العلنى فلا أجد ما يبرره إعلاميًا وأكرر كلمة إعلاميًا قبل أن يتطوع أعضاء محاكم التفتيش عن النوايا بالقول بإننى أريد التستر على فساد أو ظلم، وأذكركم بأن القاضى الذى يفقد ولو قدرًا يسيرًا جدًا من صلاحيته أو يخطئ خطأ بسيطا فإنه يحاسب حسابًا عسيرًا وكأنه أخطأ عمدًا، بينما فى المقابل يترفق القضاة فى أحكامهم بالمواطنين البسطاء ويتلمسون لهم الرأفة فى حالة الإدانة لأنهم نتاج ذات المجتمع.. والله من وراء القصد.