◄◄ الجماعة تقول إنها استخدمت حقها فى إقامة حزب سياسى.. فلماذا لايحذو الآخرون حذوها؟ ما إن تنحى مباك، وبدأت التحركات السياسية، حتى انتهى وقت الالتفاف وبدأ وقت الاستقطاب. ميدان التحرير منذ يوم 25 يناير حتى إعلان تنحى الرئيس السابق كان موحدا حول مطالب محددة «إسقاط النظام»، وهو شعار كان يعنى لدى كل تيار معنى مختلفا. كان المشهد فى التحرير يجمع الكل فى صورة واحدة، اليسار واليمين والإخوان والشيوعيين والليبراليين وأنصار الدولة المدنية، وأنصار الدينية، أو ذات المرجعية الدينية. الكل كان فى الصورة، اختفى هذا الخلاف منذ بدء الاعتصام حتى تنحى مبارك، لكن الطبيعى أن تظهر الاختلافات، وتظهر الانتماءات لتتبلور فى أحزاب ومنظمات مجتمع مدنى، وجماعات ضغط. وبالرغم من أن هذا أمر طبيعى، هناك نظام يسقط وينتهى، ونظام جديد يولد بكل آلام الولادة ومعاناتها، فإن هذه الولادة بدت صادمة لكثيرين، ومخيفة لدى البعض الآخر. ظهرت حالة خوف كبير لدى قطاع من السياسيين، خاصة التيارات غير المنظمة التى عرفت طريقها للثورة، لكنها لم تتبين بعض طريقها للسياسة. هل هذا الخوف مبرر؟ وهل يعنى الاستسلام؟ ولماذا لا تسعى التيارات الخائفة لتنظيم نفسها وبناء تنظيماتها لتدخل حلبة المنافسة؟ ثم إن تجربة الاستفتاء على التعديلات الدستورية أثبتت أن الشعب المصرى يمتلك الوعى، ويرفض الاكتفاء بدور المتلقى. كما أن التيارات التى كانت تعتمد على الحظر والطوارئ أصبحت مطروحة للنقاش مثل غيرها، كما يفترض أن تعترف الأحزاب بأنها لم تعد صالحة بشكلها الحالى وتركيبتها الفاشلة، كما أن الحركات والتيارات الجديدة مثل كفاية و6 أبريل يفترض أن تتشكل فى تنظيمات تعبر عن كل تيار، أو تبتكر تحالفاتها التى يمكن أن تنافس، وتتجاوز التيارات مرحلة الحلم إلى الواقع. الخوف من صعود التيار الدينى عموماً، والإخوان المسلمين خصوصا، هو عنوان المرحلة، خاصة أن الجماعة كانت أول تيار يعلن نيته فى تشكيل حزب سياسى بالقواعد الجديدة- الإخطار، وكانوا التيار الوحيد الذى شارك ممثل له فى لجنة إعداد التعديلات الدستورية، وكانوا مع الموافقة بنعم، على عكس تيار واسع من ائتلافات ثورة يناير، وأعلنوا عن حزبهم بناء على برنامج سابق كان ومايزال يثير بعض الأسئلة عن الموقف من الدولة المدنية، والالتباس حول المرجعية الإسلامية، لكنهم أطلقوا تطمينات تؤكد أنهم مع الدولة المدنية، كما أن آراء قيادات مثل عصام العريان وخيرت الشاطر، هى آراء قيادات احتكت بالعمل العام، وتولت أحياناً عضوية البرلمان، لكن هذه الآراء بالطبع لا تمثل من يريدون استمرار الجماعة وتنظيماتها بنفس شكلها السابق. الإخوان قالوا إنهم استخدموا حقهم فى إطلاق حزبهم، ولم يصادروا حق الآخرين. الأمر الثانى هو ما أعلنته تيارات إسلامية أخرى مثل الجماعة الإسلامية وروافدها الجهادية من الاتجاه إلى العمل السياسى، تزامن ذلك مع خروج عبود الزمر، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية، وابن عمه طارق من السجن، بعد سنوات من الاحتجاز، وتصريحاتهما التى أثارت القلق، حيث تحدث عبود فى الفضائيات والمؤتمرات عن المستقبل، وعلاقته بالمسيحيين، فأعاد أحاديث عن أهل الذمة، ووضع المسيحيين فى الصفوف الخلفية بالجيش، وتحدث عن الحزب السياسى الدينى، وتحدث طارق الزمر عن إعادة الجماعة، والسعى إلى إقامة الخلافة، مع أنباء عن تراجع بعض أعضاء الجماعة عن المراجعات السابقة. الجماعة الإسلامية تبعتها جماعات سلفية شاركت بشكل واضح فى الدعاية للتصويت بنعم فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية، واستخدمت أساليب الترغيب والترهيب الدينى لدفع البسطاء إلى التصويت بنعم على أنها واجب شرعى، وحفاظ على المادة الثانية، بالرغم من أن هذا لم يحدث، وهو ما جعل هناك مخاوف من خلط الدين بالسياسة، خاصة مع أنباء عن تراجع بعض التنظيمات المسلحة سابقاً عن مراجعاتها بشأن العنف، وهو ما أثار قلقاً فى المجتمع، وأصاب المسيحيين أو بعضهم بقلق، دفع البعض منهم للإعلان عن أحزاب مسيحية، الأمر الذى يهدد بشق المجتمع على أساس دينى، وليس منافسات على أساس سياسى. ضاعف حجم الخوف من التيارات الإسلامية أن التيارات السياسية الأخرى غير قادرة على تكوين تنظيماتها. الأحزاب السياسية التقليدية التى كانت تنافس «الوطنى» فى أغلبها أحزاب ضعيفة وعاجزة، استنفدت قواها فى الانقسامات والصراعات، مما جعلها عاجزة عن المنافسة أو استقطاب رأى عام حولها. وترفض التيارات الشعبية التى شاركت فى الثورة الاعتراف بهذه الأحزاب أو الانضمام إليها لأنها تعتبرها من بقايا النظام السابق. فى المقابل فقد بدأت الأحزاب القائمة، مثل الوفد والتجمع والناصرى والجبهة، تنظيم صفوفها لتستعيد مبادرة العمل السياسى، وتحاول استعادة الكوادر التى هربت، أو تركت العمل السياسى، وهو أمر قد يستغرق سنوات أو ينتهى بنهاية هذه الأحزاب، وبناء أحزاب على أنقاضها، وظهرت أحزاب أخرى جديدة، مثل الكرامة والوسط، تستعد هى الأخرى للدخول إلى الحياة السياسية، ويمكنها استقطاب بعض المشاركين فى الثورة، بالإضافة إلى كوادرها التى شاركت بالفعل بقياداتها. مثل حمدين صباحى فى «الكرامة»، وأبوالعلا ماضى فى «الوسط». حزب الإخوان يواجه مأزقاً سياسياً، حيث إن الحزب تنظيم عام مفتوح لكل الأشخاص، ويحق لأى مواطن يقتنع ببرنامجه أن يطلب الانضمام إليه، فهل يمكن أن يكون حزب الإخوان مفتوحا؟ أم أنه سيكون مثل جماعة الإخوان التى بقيت طوال أكثر من قرن مغلقة، ويتم تكوين كوادرها بالتجنيد والاختيار؟ هذا المأزق ينتظر أن يكون إحدى المشكلات التى ستواجه الجماعة، لأنها سوف تعمل من خلال قانون للأحزاب يجعل الحزب منظمة عامة وليس تنظيماً خاصاً. الأمر الثانى هو فتوى أو قرار أصدره المرشد العام للجماعة بأنه لا يحق لعضو الإخوان الانضمام لحزب آخر غير حزب الإخوان، وهو قرار يصادر مبدأ حرية الاختيار، ويخلط بين الجماعة والحزب، وهى أمور يفترض أن يدور حولها نقاش عام، حتى يمكن تحديد قواعد العمل الحزبى لضمان أن تلتزم الأحزاب بالشفافية فى إعلان مصادر تمويلها، وأيضاً فى العضوية، وألا تمتلك ميليشيات خاصة، ويرى المحامى والسياسى عصام سلطان أن حزب الإخوان اختبار لهم، وليس مكسبا، لأنه سيكون عليهم أن يعملوا فى النور بعد قرن ظلوا فيه يعملون فى مساحة رمادية. لكن القلق والخوف مستمران لدى التيارات السياسية، خاصة الذين شاركوا فى الثورة بميدان التحرير، وبعضهم يرى أن التيار الوحيد المنظم هو جماعة الإخوان، وأن باقى التيارات، سواء من اليسار أو الليبراليين، غير جاهزة للعمل السياسى، ربما لأنهم لم يفكروا فى تبادل السلطة أو الدخول فى منافسات السياسة، مع توقعات بأن تفوز الجماعة بالأغلبية فى الانتخابات، ومحترفو الحزب الوطنى، ليأتى برلمان لا يمثل الشعب ولكن يمثل القادرين على التنظيم السريع. فى المقابل، فإن كثيرا من ائتلافات يناير أعلنت رفضها تلك التعديلات، ووجدتها ترقيعا على دستور مهترئ، وطالبت بدستور جديد، وأن يأخذ البلد وقته لبناء تيارات يمكنها المنافسة فى الانتخابات، مع توقع بأن أى انتخابات قادمة ستكون نتيجتها للإخوان، وبقايا الحزب الوطنى من محترفى الانتخابات. الإخوان يردون بأنهم يعملون وفق فكرة المشاركة وليس المغالبة، وأنهم لا يمكن أن يلاموا على أنهم استخدموا حقهم فى تكوين حزب. أى تيار ينادى بالديمقراطية عليه أن يعترف بحق الجميع فى الوجود، مع إطار قانونى يمنع استخدام العنف، أو احتكار السلطة، أو الانقلاب على الدولة المدنية التى تضمن لكل مواطنيها حرية الاعتقاد والتعبير والعمل العلنى السياسى فى إطار سلمى، كما أن الخائفين لا يقرأون التحولات التى جرت فى الفكر المصرى بعد ثورة يناير التى كانت قوية جداً فى التعبير عن الرغبة فى إقامة دولة عادلة، ومن الصعب على الثورة التى أطاحت بنظام متسلط بدا عصياً على التغيير، أن تتهاون وتسلم الدولة لفريق دون آخر. المشكلة أن الخائفين من تنظيم الإخوان مازالوا عاجزين عن التوصل إلى حوار يجمع تيارات أو يبلور أحزابا يمكنها المنافسة. ويبدو قطاع من المعارضين للتيار الدينى معترضا على استمرار مناورات وصفقات تعقدها الجماعة فى منتصف الطرق، وتتخلى عن تحالفاتها من أجل مكاسب برجماتية، وهؤلاء يتجاهلون أنه إذا كان ميدان التحرير وحّد الجميع، فالطبيعى أن يتفرق إلى تيارات وأحزاب سوف تتنافس وتختلف، وأن البرجماتية والمناورة معروفة فى السياسة، مادامت هناك قواعد للعبة تضمن تكافؤ الفرص، خاصة أن بعضا ممن ينتقدون قدرة الإخوان على التنظيم، يفشلون فى تنظيم أنفسهم، ويعجزون عن تحديد إستراتيجية يمكنهم المنافسة بها، ومطلوب أن تغادر التيارات السياسية حالة رد الفعل، وتسعى لبلورة أفكار العدالة والحرية والمساواة فى أحزاب وتنظيمات يمكنها طرح هذه الأفكار فى برامج يمكنها استقطاب مواطنين فى تنظيمات وجماعات تمكنها من المنافسة فى سباقات انتخابية صعبة، تتجاوز مجرد إطلاق الشعارات إلى العمل على الأرض. أى ثورة تختلف فى الشكل والمضمون عندما تتجه نحو السلطة تظهر الانقسامات، وتتضح الأهداف والنوايا، وسوف تتفرق جموع التحرير إلى سلطة ومؤيدين ومعارضين. وفى أى سباق سياسى أو انتخابى يكون هناك مؤيدون ومعارضون، واتهامات وردود، وحوارات، وحسب قدرتها على الإقناع فإنها تترجم إلى أصوات انتخابية، ومن حق الناخبين أن يسألوا وينتقدوا ويهاجموا، فهى قواعد اللعبة الديمقراطية، مع الاتفاق على قواعد عامة تحكم الجميع، فليس المهم أن ينهزم خصومنا، بل المهم أن ننتصر، وأن يعترف كل تيار بحق الآخرين.