عصر يوم 28 يناير، وصل الثوار بعد يوم منهك إلى باب الأهرام، هتفوا بسقوط أبواق النظام، ألقى بعضهم بما تبقى من حجارة اليوم، ثم رحلوا مكملين رحلتهم فى شارع الجلاء، كنت معهم يتأرجح انتمائى بين مؤسستى المهددة والتى استنفرت طابور رجال الأمن بها ليدافعوا عنها وبين زملائى المتظاهرين الذين قضيت اليوم بينهم، نستنشق دخان القنابل المسيلة للدموع، وتروعنا هراوات الأمن والرصاصات المطاطية التى طالت العشرات منهم، جاءت الثورة حتى باب الأهرام ثم رحلت. ثلاثون عاما أو أكثر غابت الأهرام أو غيّبت عن الشارع، كانت المظاهرات (وقفات احتجاجية)، والمتظاهرون (قلة مندسة)، والمعارضون (عملاء ومحظورون)، وبينما كان ميدان التحرير يبشر ظهر يوم 25 يناير بميلاد الثورة كانت صورة حبيب العادلى وزير الداخلية مبتسما ابتسامة عريضة تزين الصفحة الأولى من الأهرام بحوار اقتطع صفحتين من الجريدة أجراه رئيس التحرير ومدير التحرير، بينما كانت الأهرام ترى ما حدث فى الميدان احتجاجات فئوية جانبية، لم تعكر صفو تبادل الشرطة والشعب باقات الزهور والشيكولاته (الأهرام 26 يناير). ثلاثون عاما أو يزيد كانت الأهرام تدور فى فلك النظام وتيرة عمل واحدة، صباح عمل صحفى يشرق على فنجان قهوة الرئيس، ويقتات يومه على أخبار اجتماعاته وتصريحاته وأسفاره، بينما يرى رئيس التحرير، أن تاريخ مصر يجب أن يكتب يوم ولد الرئيس، وينسى أن مصر لها تاريخ آخر عمره يزيد بآلاف السنين عن الثمانين عاما التى عاشها الرئيس. مساء الثامن والعشرين من يناير ما بين الخامسة والثامنة، كان مبنى الأهرام يهتز داخليا، ارتبكت العقول، واهتزت الأقلام، صالة التحرير كانت تبدو بلا عقل، رئيس التحرير يدور حول نفسه كمن يبحث عن كتاب يعلم العوم وهو فى وسط البحر، بينما مساعدوه يتحسسون أقلامهم وأوراقهم، لا يملكون سوى الأسئلة المرتبكة عما يحدث فى الخارج، كانت الأهرام مستمرة فى نفس قوقعتها التى وضعت بها عمدا طوال سنوات مبارك، كان الفاكس فى صالة الرابع، لا يتلقى أخبارا تنشر فورا، بينما شاشات التليفزيونات تثير مزيدا من الارتباك خاصة فى ظل وجود التليفزيون المصرى الذى اختار أن يغيب عن الشارع. لم يصدق أسامة سرايا وحتى يوم 11 فبراير أن الثورة قامت، لم يفهم أن الشارع قد تغيرت خارطته تماما، وأن المسؤولين والمصادر الأمنية رفيعة المستوى والوزراء ومؤسسة الرئاسة قد تهاوت عروشها, كانت بوصلة العمل تهتز بشدة لكنها لم تكتشف وجهة تسير عليها فقط، تتمنى بعقلية الغريق أى بادرة أمل تدل على نجاة النظام واستمراره وبقائه، كان الميدان يصرخ بطلب الرحيل، بينما مانشيت الأهرام يزعق بلغة تمتلئ كذبا أن الملايين يؤيدون مبارك، بينما امتلأت صفحات عدد 3 فبراير بتقارير ذيلت بأسماء لم تتحرك من فوق مكاتبها، روح الأهرام كانت أثقل من أن تصعد عاليا قليلا لترى المشهد جليا، الثورة قامت، كانت أصوات المعارضة القليلة داخل الأهرام قد بدأت وزملاء لنا عرفوا طريقهم للميدان مبكرا، قد عادوا ليحملوا بشائر الثورة للمبنى القابع فى جلال وتكاسل بشارع الجلاء، لكن الهواء المحمل بالأرواح الثقيلة التى تكره التغيير، لم يتقبل هؤلاء، واكتفى الآخرون بالحياد القاتل والشكوى المرة من الظلم فى الداخل، لكنها شكوى لا تعرف الثورة ولا الحركة من أجل التغيير. 25 عاما صاغ إبراهيم نافع فيها فكر الأهرام على طريقته الخاصة، وبوصلته التى أدركت منذ البداية ارتباطه بالسلطة، يعنى ضمان البقاء وأكملها خلفه بخمسة أعوام، ثلاثون عاما صنعوا فيها جيوشهم الخاصة من أنصاف الموهوبين والصحفيات بدرجة سكرتيرات، غيّب فيها عقل الأهرام كجريدة تشارك فى صنع التاريخ واكتفوا بها نشرة تتابع خطوات الرئيس، وبروازا ذهبيا يزين لوحة الرئيس، وحصانا يركبه الرئيس ليدهس به فلول معارضيه، كانت مؤسسة الرئاسة والأمن هما عقل وقلب الجريدة لسنوات طويلة, عملية تدجين بارعة مورست على عقول صحفيى الأهرام، وقتل بطىء لكل روح متمردة تخرج بنغمة نشاز لمنظومة العزف المائع والممل. لم يكن أحد يجرؤ على قول لا، فالثمن هو الإبعاد والوأد المنهجى المنظم كان صحفيو الأهرام مجرد جيش من الأصوات الخانعة أمام صندوق انتخابات النقابة، وكانت كلمة لا كالفضيلة الغائبة، يمارسها أصحابها سرا مع فنجان القهوة فى كافتيريا الدور الرابع، كان نافع رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة والنقيب والأب الروحى للأهرام، وعيد ميلاده، يبدو كطقس احتفالى بدائى، توزع المنح وتقدم القرابين وتعلو الزغاريد فرحا بإبراهيم، كانت الأهرام تبدو كإمارة صغيرة تدور فى فلك مملكة الدولة, لم يسأل أحد وقتها إبراهيم نافع كم يتقاضى من أموال الأهرام، ولم يجرؤ أحد على رفع صوته مطالبا بعدالة ضاعت تحت سنابك الملايين التى كانت تخرج من خزائن الأهرام لحسابات إبراهيم نافع ورجاله، حتى الأجهزة الرقابية كانت تطلب فلا يجاب لها وظلت تسأل حتى بعد رحيله.. كم تأخذ قيادات الأهرام ومن هم؟، ولم يجب أحد على تساؤلات رجال الجهاز المركزى للمحاسبات فى تقاريره المتوالية التى قرأتها مؤخرا، بينما مازلت أحمل الأسئلة نفسها: كم كان يتقاضى هذا الحاكم وكم يتقاضى خلفاؤه فى الحكم الذين يسيرون على نفس قواعد العمل ماليا ومهنيا؟. قلة قليلة طلبت حق أن تعرف وقتها، بينما ابتلع العشرات مرارة الظلم خوفا من التنكيل بهم، رحل إبراهيم نافع وترك الأهرام هادئة تماما بلا روح، رحل بمليارات امتصها من دم المؤسسة العجوز، وترك جريدة تعلم صحفيوها أن الصمت فضيلة، وجريدة بات قراؤها لا يثقون فيها، وأكمل التلميذ على الدرب نفسه وزاد عليه. (الشعب أسقط النظام) بثلاث كلمات فقط، انقلبت الأهرام فى صبيحة يوم 12 فبراير، أخيرا أدرك عقل الأهرام أن ثورة قامت، وأن نظاما قد هوى، لكنه ظل ومازال إدراكا بلا بوصلة، فالجريدة التى تحتفى بالثوار والثورة بشكل شديد الإثارة عبر صفحات كاملة من الصور الملونة، هى نفسها التى كان كاتبها الأول مكرم محمد أحمد مازال يتكلم عن تعهدات الرئيس (الذى تنحى وقت مثول الجريدة للطبع) بتحقيق الديمقراطية، بينما يحذر بلغة خطابية تتجمل بالعقل من سقف المطالب الذى يعلو، ويمكن أن يدمر قدرة الوطن!!! وكانت صالة التحرير مازال بهوها تزينه صور الرئيس المتنحى، ولقاءاته بقيادات الأهرام ،وزيارته لمطبعة الأهرام التى كلفت المؤسسة 350 ألف جنيه زهورا ويافطات تأييد، بينما تسجل صورة أخرى لحظة اعتبرها رئيس تحرير الأهرام لحظة تاريخية فارقة. عندما جلس الرئيس قارئا جريدة الأهرام فى مستشفاه فى ألمانيا (منذ أسبوع فقط جرؤ زميل لنا على قلب الصورة على ظهرها ثم اختفت تماما) فى نفس هذا المكان أو قريبا منه فى السادسة من مساء 28 يناير، سألت وكأننى كائن قادم من فضاء الخارج، عما يحدث.. وكيف الحال هناك خارج مبنى الأهرام؟ وطلب منى أن أكتب ما عشته ورأيته، وسألت وهل ستنشرون؟ وكان الرد سنرى، بينما فاوضنى أحد مديرى التحرير بكلمات سريعة وصاعقة حتى لو نشرنا خمسين بالمائة مما ستكتبين فهذا جيد، لم أكن على استعداد للتفاوض، فلم أخرج يوم الغضب لأمارس الصحافة بنصف وعى، وبنصف رؤية، وبلا ضمير، خرجت بصفتى مواطنة أرادت أن تصرخ من أجل الوطن، وعندما عدت للأهرام عقب انسحاب الشرطة مدركة أن الثورة جاءت، بدوت ككائن فضائى جاء من عالم آخر، حتى من قابلتهم من زملاء لى عاشوا التجربة نفسها، لم أجد لأحد منهم شيئا مكتوبا، اللهم بعد أن قررت الأهرام أن ينزل لاعب شاب يلعب بروح الثورة، وهو ملحق شباب التحرير، وبرغم روح الثورة التى تلبست الملحق، بل وزحفت لصفحات الأهرام, فإن الثورة نفسها لم تدخل من باب الأهرام حتى الثورات الصغرى وحركات التمرد الإلكترونية على صفحات الفيس بوك (إصلاح الأهرام, جبهة إنقاذ الأهرام, صحفيو الأهرام)، بدأت ساخنة، عبقة بروح الثورة، والرغبة فى التغيير، وانتهت جدلا بلا حراك، إلا فيما قل أو نصائح تلبست روح التعقل الزائف بضرورة الحفاظ على المؤسسة وتماسكها، تحولت صفحات التفاعل الإلكترونى لنسخة أخرى من الجريدة تعيش الثورة ولا تفعلها، جدال بلا معنى وحركة بلا تحرك، وعندما نزلنا لبهو الأهرام لنطالب القيادات بالرحيل، كان عدد المتفرجين يفوق عدد الثائرين، ويفوق رجال أمن الأهرام عدد الاثنين معا. لن أنسى يوم الأربعاء 9 فبراير، عندما رفض أحد شباب لجان التنظيم بميدان التحرير أن يسمح لى بدخول الميدان، عندما عرف أننى صحفية من الأهرام، صدمتنى كلماته القليلة لن نسمح لصحفيى الأهرام بالدخول، أنتم تكتبون ضد الثورة، عرفت فى اليوم الثانى أنى لست الوحيدة التى صدمها الرفض، عندما جلسنا فى قاعة هيكل، حكى كثيرون القصة نفسها، كانت الثورة تشتعل فى صدورنا جميعا فرحت أن الثورة على الأقل وصلت للدور الأول حتى عندما رفض أسامة سرايا أن ينزل لنا وتأخر عبدالمنعم سعيد ساعة كاملة، لكننى عدت ومعى الكثيرون لنقطة التجمد، عندما أعلن رئيس مجلس الإدارة أنه غير نادم على كلمة كتبها يوما من أجل النظام، عندما سأله زميل لنا عن موقفه المضلل أثناء وبعد انتخابات مجلس الشعب -الفضيحة- التى لم يختلف أحد على فسادها، بينما كانت صفحات الأهرام تبشر بكاتب عظيم ومنظّر بارع يحمل اسم أحمد عز. لم أندهش كثيرا عندما أعلن الدكتور يحيى الجمل عن أن مرتب رئيس مجلس الإدارة لن يزيد على 75 ألفا شهريا، ومرتب رئيس التحرير على56 ألفا، ولم يعترض أحد منهما وتساءلت: وهل يعلم الدكتور يحيى أن هذا الراتب ليس هو المشكلة، حتى لو كان يساوى خمسين ضعفا لراتب محرر قضى عشر سنوات فى الأهرام، فالمشكلة الحقيقية أن هؤلاء يعرفون تماما أن الأهرام ليست هى إيصال الراتب الشهرى فقط . بل بنود أخرى كثيرة أقرتها منظومة الفساد السابقة قبل هذا بسنوات ولم يعترض أحد عليها إلا قلة ضاع صوتها فى صحراء الصمت الذى يعيشه أبناء الأهرام، وبات كأنه جزء أصيل من ثقافة الأهراميين الذين إما افسدوا عمدا أو أصمتوا كمدا وإحباطا. لم ولن يتغيروا فالتغيير يعنى الاعتراف بالخطأ أو الفساد لم يتغير الأهرام نفس الأقلام تكتب من غرفها المغلقة على نفس الأوراق بنفس العقول تغيرت العناوين ولم تتغير المضامين كلما تحدثت مع أصدقاء من خارج المؤسسة يسألوننى ألم يرحل سرايا وعبد المنعم أجيبهم الثورة لم تأت بعد الأصوات لا زالت صامتة وصالة التحرير تعيش بنفس وتيرتها القديمة والقيادات تغير ألوان أقلامها ولا تغير مداد حبرها، والقلة الثائرة تبدو ككورس يغنى بكلمات غريبة عن سكان المبنى العريق، يسمع السكان يندهش البعض وينظر ثم يمضى, يستنكر البعض ويمتعض ثم يمضى يرفض البعض ويتحسسون مفاتيح حجراتهم التى أغلقوها قبل العودة للبيت ثم يمضوا تأتى الثورة إلى باب الأهرام ثم تمضى.