يواصل الشاعر كريم عبد السلام فى ديوانه الأخير "قصائد حب إلى ذئبة" الصادر عن دار "الجديد" البيروتية ربيع 2010، رحلته الثرية مع قصيدة النثر وهمومها، عبر حوار فاعل بين فضاء التجربة ووعدها المأمول، ليقدم لنا مع نظراء له ومجاملين نموذجاً فريداً فى رحابة الثقافة والإبداع الشعرى، منطلقاً من إيمان لا يحيد بأن العمل الفنى فى ذاته هو عين حقيقته لا ما يصدر من خارجه. وديوانه الأحدث هذا، هو السابع فى مسيرته الإبداعية العامرة بالعطاء والإنجاز بعد: استئناس الفراغ (1993) بين رجفة وأخرى (1996) باتجاه ليلنا الأصلى (1997) فتاة وصبى فى المدافن (1999) مريم المرحة (2004) نائم فى الجوارسيك بارك (2008). وعمل "كريم" بالصحافة الأدبية مصرية وعربية.. وأسس مجلة إلكترونية رعاها باسم مجلة "شعر" عنيت بقصيدة النثر وسيرورتها التحريرية.. وأمضى سنتين مشرفاً على ندوات جاليرى 5 +5 بوسط البلد. وقد اقترب "كريم" من الكاتب الكبير بدر الديب أحد رواد الحداثة العربية، وأفاد من درسه الأدبى الرامى إلى امتلاك التاريخ بالمعنى الذى سعى إليه الفيلسوف مارتين هيدجر فى "الوجود والزمن"، حيث نفتح أذننا ونحررها استجابة لما ينادى به التراث الفلسفى وتعيده وجود الموجود. ورأى "كريم" مثله كما يبتدى فى ديوان "قصائد حب إلى ذئبة" أن المرأة منبع دائم تتجدد فيه الروح، ومصدر للقوة والقيمة. لهذا ظلت تمثل له هذه العلاقة التى لا تنقسم بين ثالوث: الحب هو الفناء أو الموت، وقد توحد هذا الثالوث فى المرأة روحاً وبدنا. لهذا رأى الشاعر كريم عبد السلام فى المرأة جسراً بين الصمت والكلام يسهم فى توليد المعانى المرفوضة بأحلام ومجازفات، وإضفاء الأزمنة إلى حوار الطبيعة والتاريخ، وتكثيف الجوهر الهش للكينونة والجمال.. مستقطراً من هذا كله صورة الإنسان من خلال استكشاف ذاته، وإطراح ثقته فى المسلمات المنطقية والأخلاقية والاجتماعية التى جعلتها حاملة للمعنى، وليست صانعة له، بعد أن كبلها الرجل بنسق رمزى حول له أن يمارس فيه استيهاماته وهواجسه.. لذا راح الشاعر يفكك هذه الصورة، ليحررها فيتلاعب بها الخيال، أنى شاء، داخل تمثيلنا الخاص بها، والطرائق التى نرى بها العالم. يقول "كريم" فى قصيدة "كاثرينا": أنت الآن بعيدة وعطرك معى شاهد على أن العالم صياد بلا قلب اختطف ذئبتى ومضى بها إلى قفص ناء.. بينما أشم رائحتها فى كل شىء حولى أعوى وأدور فى الليل.. أسمع عواءها يجاوبنى.. بأن علها يقطر الآن على الأرض. وقد اختار كريم عبد السلام "الذئبة" محبوبة، لأن الالتحام عند السفاد لا يوجد كما يقول "الدميرى" فى كتابة "حياة الحيوان الكبرى" إلا فى الكلب والذئب. وإذا أراد الذئب والذئبة السفاد توخياً موضعاً لا يطؤه الإنس خوفاً على أنفسهما، ويسفد مضطجعاً على الأرض (وتسافر الحيوان: نزا بعضه على بعض) ويقال إن عين الذئبة إذا علقت على من يصرع، تمنع من الصرع.. وهكذا.. وقد روت الأساطير الرومانية أن الإله "مارس" Mars و"ريموس"، وأن الطفلتين ألقيا فى نهر التيبر، ولكن بفضل العناية الإلهية ألقت مياه النهر بالطفلتين إلى الشاطئن فأخذت ترضعهما ذئبة، إلى أن عثر عليهما راع يدعى "فاوستولوس" فقام بتربيتهما عند المكان الذى أنشئت عليه "روما" فيما بعد. وتخليداً لذكرى تأسيس "روما" أقيم تمثال من البرونز لذئبة ترضع توأمين من البشر فى الفورم forum عام 296م. وقد طالعت فى كتاب "نساء يركضن مع الذئاب" للباحثة كلاريسا بنكولا.. ترجمة: مصطفى محمد، أن المرأة والذئبة بطبيعتهما ترتبطان بعلاقة قرابة.. فكلتاهما فضولية تتمتع بقدر عظيم من الإخلاص والتفانى والإدراك الداخلى والمشاعر العميقة تجاه صغارهما وعائلتيهما. وكذلك تتوافر لهما خبرة التكيف مع الظروف المتغيرة والشجاعة الفائقة والثبات بقوة على المواقف، وأبانت لنا "الباحثة" أن "الأسطورة الأزتيكية" تتحدث عن أن النساء خلقن من تجعيدة فى باطن قدم "المرأة الذئبة لا لوبا"، وهذا هو السبب فى أن النساء مخلوقات عارفات، لأنهن فى الأصل مصنوعات من جلد باطن القدم الذى يستشعر كل شىء. لذلك فإن "لالوبا" تبحث عن عظام الذئاب.. وعندما يتجمع لديها الهيكل العظمى الكامل، تجلس أمام النيران وتفكر فى الأغنية التى سوف تغنيها. وما إن تغنى ، حتى تبدأ ضلوع الذئبة وعظامها وأرجلها تكتسى باللحم، وينبت لها الفراء.. وتواصل "لا لوبا" الغناء، فيخلق الكائن ويتشكل أكثر فأكثر، ويعلو الذيل قوياً مفتولاً بالشعر الأشعث وتبدأ المخلوقة الذئبة فى التنفس، وتنفتح عينها على غنائها، وتقفز عالياً، وتركض بعيداً طليقة صوب الأفاق الممتدة لذلك يقال إن المرأة إذا هامت فى الصحراء وقت الغروب، وكانت تشعر بشىء من الضياع، فإنها محظوظة، لأن "لولوبا" قد تعثر عليها وتريها الأسرار!. غير أن الشاعر كريم عبد السلام هنا استطاع أن يتوسل بالمرأة طريقاً إلى رقصة الحب والجسد واكتشاف مناطق فيها قادرة على الإدهاش ودرباً إلى الحرية يسهم فى إعادة صياغة العالم على نحو جديد.. وبذلك صيرها أسئلة جمالية ووجودية، وتجربة التماهى وجعل الآخر من الأنا [ذاك الرفيق الكامن الذى فى ذاتى ينجز وجودة] كما يقول مالارميه، يقول كريم عبد السلام فى قصيدة "حزن ما بعد الغرام": "عندما أدخل من بابك.. أود لو أبقى ولا أخرج.. أنت سلالة الملوك الذين جعلوا أبوابهم منخفضة.. تجبر الداخلين على الركوع والزحف، أركع وأزحف أتياً إلى بابك.. فأدخل ولا أدخل.. تبتلعيننى وتهمهمين.. أنا حوتك وشجرة يقطينك التى عليك تلتف بإمكانى ألا أطلقك.. تقولين وأصدقك.. أسألك: هل دخل يونس من باب مثل بابك؟" وعلى هذا النحو، يمضى شاعرنا محطماً السدود الفيزيقية والسيكولوجية معاً.. بين الوعى واللاوعى.. بين العالم الداخلى والعالم الخارجى، ليمتزج فيها الحقيقى وغير الحقيقى، فيتقابلان ويسيطران على الحياة كلها: "ألمسك وتنتهى اللمسة.. أقبلك وتنتهى القبلة.. أيمكن أن أظل ملامساً لك كل لحظة.. أن أقبلك قبلة لا تنتهى.. إلى أين ينسرب الحاضر هكذا من بين أصابعنا؟ اقبضى على بقوة لا تفلتينى.. ربما أن ظللت ألمسك هكذا نهزم الموت.." وهنا ينفتح ديوان "قصائد حب إلى ذئبة" على مقاربة الذات للآخر، بوصفها تعبيراً عن التعدد والقيم التعبيرية للألوان، والجغرافيا التى تحتضن التاريخ كأصوات عرضية. إنها فكرة الإنسان الحوارى غير التام بالضرورة فى حد ذاته، والذى يعنى الوجود بالنسبة إليه التواصل.. يقول "كريم" فى قصيدته هذه "حزن ما بعد الغرام": أظل هكذا... أضرب رأسى فى حائطك الطرى.. يدى فى عجينك.. وشفتاى على رقبتك.. تمتد اللحظة وتتمدد.. يتوقف الزمن وأنا أروح وأجىء.. ناقل حركة فقدوا السيطرة عليه.. كل زمنى أقضية هكذا.. كل طاقتى أفرغها وأنتهى.. افتحى باب المملكة لأدخل بكاملى وأسكن.. يا كهفى ومغارتى وكنى و وجرى وعشى و جحرى وشرفتى على البحر.. لا أقل من أن أموت داخل رحمك وأن أدفن فيها. إن الشاعر هنا يقرأ الصمت متطلعاً إلى الارتباط بتاريخ للجسد مجهول، بمنعطفاته اللامرئية وفانتازياته الفريدة، وأصواته الصامتة اللاعجة بعذابات الإنسان، ووجعه الداخلى، وفرحه الحقيقى. ولأن جماليات القصيدة عند كريم عبد السلام تنأى عن "الشعرنة"، وعن طريق تأخذه فيه اللغة بعيداً عن شرطه الإنسانى، فقد حرص على الانفصال عن عالم الأشياء المبهمة، وسعى إلى تأكيد فعل تحرره الداخلى، عبر حسيته الشهوية الطاغية التى تعيد اكتشاف الإنسانية فى واحد من جراحها الأولى، لكى يرى أفق بدايته الجديدة رغبة متجددة لا تنى تعبر عن نفسها فى كل الماضى، وكل المستقبل.. يقول "كريم" فى قصيدة "قاتلة المعنى": "أريد تفسيراً لمعنى الوحدة فى جسدك.. شفتك تتصل بخنصرك وبأدق الشعرات على ساقيك.. وأنت تتبنين الفصل العنصرى بين لسانك وثدييك.. وترفعين شعار تمكين المرأة.. وتختارين ألواناً مثيرة لغطاء شعرك" وهنا يعيدنا الشاعر إلى مقولات السريالية عن أن الشعر والإيروتيكا متماهيان، لأن لهما الجذور ذاتها، والهدف ذاته. فالقصيدة كون من الكلمات تتوحد فيها عبر الاستعارة كل أقطاب الحياة المتناقضة فبالشعر، كما باللذة الجنسية، تختفى الأضداد، لتخلى المكان لواقع جديد.. لذلك كتب أوكتافيوباث يقول: "إن صوت الرغبة هو صوت الوجود نفسه.. ذلك أن الوجود ليس سوى رغبة فى الوجود" يقول الشاعر فى قصيدة "مركز الكون": "رائحة شعرك رائحة عرقك المختلط بقميصك الخفيف وتلك الرائحة العميقة التى تنبع من مركز الكون فجأة، قويت عندى حاسة الشم ولا أملك إلا أن أتبعها أنفى يهدينى فأتحرك وراء روائحك إلى أن أجدك أمامى ليست مصادفة تتكرر كما قلت لك والقدر منذ متى كان مواتياً" وهنا يرى الشاعر "الجسد" بوصفة حركة دائمة، وصيرورة لا نهائية ويتقاطع فيها الإدراك مع الإنصات، والعين مع الأذن.. وبذلك يغدو الحب والإيروتيكا "ليبيدو" متحولاً وسامياً يستعيد الكلية الممزقة للإنسان وللواقع، من أجل أن تتجاوز الأنا أناها فتستحيل إلى إيقاع الحياة ونسيج من الاستعارات، ألم يغن "زرادشت "نيتشه" أنشودة العالم، من خلال تهلل الجسد وابتهاجه.. فرحته ومتعته، من أجل امتداد شهوانى وديونيزى؟ ألم يقل لنا أندرية بريتون سنه 1932: "إن الرغبة وسيلة لمعرفة الإنسان ولتغيير العالم"؟ إن الجسد هو الساحة التى تتحول فيها القوى إلى علامات تخلخل السائد لتكشف عن آليات بنائه، وما تمارسه من كبت له، وحجب لدواله، وكشف لأوهامه. ومن ثم أضحت مقامات الشعر وأحواله بحثه الدائم عن الوصال.. حدوسه بالغة الهشاشة.. أضحت تشكل ترسبات النص وظلاله وفجواته التى أنتجت حقيقته الخاصة. وبذلك استطاع "الشاعر" أن يزاوج بين الشخصى والحميمى.. الرؤية الجمالية والمتخيل الشعرى، عبر تكثيف لحظات السرد وصوغ المفارقة، فينفتح الطريق إلى الريب والرغبات والأسئلة التى تفتح نصوص الديوان على بعضها فى مشاهد حوارية تتفجر بالكمون والحركة.. بالوصل والفصل، نافية أى معنى قار أو ثابت، دافعة باتجاه إرجاء الدلالات، منسلة دوماً إلى متعة غافية، أو اختلاجة متوفزة.. ألم يقل لنا فى قصيدة "فى مركب مريض على الشاطئ": "حتى الهروب كان ممتعاً.. إلى ملابسنا.. إلى مياه البحر.. إلى بداية الطريق عبر دائرة واسعة من الرمال والعثرات.. الهروب من أنف القناصة وحيواناتهم والهروب من نهار المدينة.. اهربى يا حبيبتى.. اهربى يا حبيبتى.." ألا يخرج ديوان "قصائد حب إلى ذئبه" العالم من كونه موضوعاً حاضراً أمام الذات، وقابلاً للتمثل ، إلى وجود قابل للتأويل رافض وهم القسمة الأنطولوجية، وما تتطلبه من تفاضل أخلاقى بين العالمين، سعياً إلى إنسانية متعددة الألوان، يشتعل فيها بالضوء الجمال والحب، عبر علاقة الألم باللذة والصمت بالرغبة؟!