تشير مجلة ذاكرة مصر المعاصرة الصادرة عن مكتبة الإسكندرية، فى عددها الرابع، تحت عنوان "صدق أو لا تصدق"، أن جملة "شىء لزوم الشىء"، التى استخدمها فنان الكوميديا نجيب الريحانى فى رائعته "أبوحلموس"، مبررًا بتلقائية وحس كوميدى المبالغ المالية المُبالغ فيها التى صرفها، هى نفسها الجملة التى تعبر عن دخول الطباعة فى مصر. وتبين المجلة أن مصر عرفت الطباعة على يد نابليون بونابرت على طريقة شىء لزوم الشىء؛ أى أن المطبعة كانت تطبع بالعربية لزوم توزيع البيانات والمنشورات على الشعب المصرى، فقد أدرك بونابرت منذ اللحظة التى قرر فيها احتلال مصر أن الدعاية هى السلاح الفعال الذى قد يكسب به قلوب المصريين، فكان عليه إذن أن يعد العدة لحملة من الدعاية يوطد أركانها بمطبعة يحملها معه لتساعده فيما يرمى إليه. وحرص بونابرت على تزويد المطبعة التى حملها معه إلى مصر بالحروف العربية واليونانية والفرنسية، وعنى عناية خاصة برجال المطبعة الجديدة ومعداتها، ففى 6 مارس 1798، اتخذت الحكومة الفرنسية قرارًا بتعبئة كل ما يحتاج إليه بونابرت، بما فى ذلك الحروف العربية والفرنسية واليونانية الموجودة فى مطبعة الجمهورية. وانقسمت المطابع الرسمية للحملة إلى شعبتين: شعبة شرقية وشعبة فرنسية، وأطلق على المطبعة الرسمية بشعبيتها ثلاثة أسماء رسمية واسمًا شعبيًا، فعُرفت أثناء اجتياز الحملة البحر المتوسط "بمطبعة الجيش البحرية"، ولما ُأنزلت فى الإسكندرية سُميت "بالمطبعة الشرقية الفرنسية"، وحين استقر بها المقام فى القاهرة اتخذت اسم "المطبعة الأهلية". أما من الناحية الشعبية فقد كان الفرنسيون يعرفونها باسم "المطبعة الجديدة"؛ لأنها وصلت القاهرة بعد مطبعة مارك أوريل بأشهر، وهو طابع فرنسى أذن له بونابرت بالحضور إلى مصر بصحبة الحملة ومعه مطبعته. وكانت المطبعة الرسمية على ظهر سفينة الأميرالية L'Orient التى كانت تقل بونابرت وأركان حربه، ولم يكن وجود المطبعة على نفس سفينة القائد العام وليد الصدفة، فبونابرت أرادها بالقرب منه ليستفيد منها فى أية لحظة يشاء، فقد أمر بأن تعمل وهى فى البحر لتطبع النداء الموجه لشعب مصر والأمر الموجه للجيش والمؤرخ فى 22 يونيه 1798، وقد أمر بونابرت بطبع البيان العربى إلى الشعب المصرى قبيل احتلال الإسكندرية، أى يوم 2 يوليو، أما مطبعة مارك أوريل فقد كانت على الفرقاطة "La Justice"، إحدى سفن الحملة، وقامت بطبع البيان أول يوليو. وتشير المجلة إلى أنه بعد أن تم لبونابرت احتلال الإسكندرية، وقبل أن يزحف منها على القاهرة، أصدر فى 7 يوليو 1798 أمرًا بإنزال المطابع الفرنسية والعربية واليونانية إلى البر، وبأن توضع فى منزل وكيل قنصل البندقية؛ بحيث يمكن الطبع بها فى ظرف ثمانى وأربعين ساعة، وخرج منها أول مطبوع فى مصر وهو الطبعة الثانية لبيان 13 مسيدور المكتوب باللغة العربية والذى تحمل نسخة منه هذه العبارة "فى إسكندرية من مطبعة الشرقية والفرنساوية"، ثم رحل نابليون إلى القاهرة تاركًا المطبعة العربية فى الإسكندرية. وظل مقر المطبعة الشرقية بمدينة الإسكندرية إلى نهاية 1798م؛ حيث ظلت المطبعة الوحيدة فى مصر التى تطبع بالعربية، إذ إن نابليون كان يستخدم مطبعة مارك أوريل فى القاهرة للطباعة باللغة الفرنسية، ويرسل إلى المطبعة الشرقيةبالإسكندرية للطباعة باللغة العربية.. ولما استقر الفرنسيون فى القاهرة، بدأ مارك أوريل عمله بأن نشر أمرًا رسميًّا فى 15 أغسطس سنة 1798، بينما بقيت المطبعة الرسمية فى الإسكندرية، وأخذت مطبعة مارك تطبع أوامر بونابرت ومنشوراته باللغة الفرنسية، وكانت القيادة ترسل هذه الأوامر إلى الإسكندرية لتطبع باللغة العربية، إذ إن مطبعة أوريل لم تكن بها حروف عربية على الإطلاق، وبجانب طبعه أوامر بونابرت ومنشوراته كان يقوم بنشر جريدتى لوكورييه دى ليجبت Le Courrier de l'Egypte ولاديكاد إجبسين La Décade Egyptienne. وتعتبر هذه المطبعة المستقلة عن الحملة أول مطبعة شهدتها مدينة القاهرة، إذ كان الأهالى يجهلون هذه الصناعة جهلاً تامًّا فعرفوها فى أغسطس، وسبقتهم الإسكندرية فى هذه المعرفة بشهر وأيام. ورأى نابليون بونابرت أن مجهود مارك أوريل قاصرٌ عن أن يحقق أغراضه فى طبع الصحيفتين على نحو يرضيه ويرضى علماء الحملة الفرنسية؛ لذلك أرسل فى طلب مطبعة الإسكندرية، وعندما استقرت المطبعة الأهلية فى القاهرة رأى مارك أوريل أنه سيبقى معطلاً عن العمل فعرض على الحكومة أن يبيعها آلات مطبعتهن، فوافق نابليون على ذلك. وابتداء من 14 يناير سنة 1799م أصبحت المطبعة الأهلية فى القاهرة المطبعة الوحيدة فى خدمة الحملة الفرنسية، وقد أصدر بونابرت أمرًا بتنظيم وتعيين المسئولين عن سياسة المطبوعات فيها، وكان هذا الأمر فى 14 يناير 1799؛ ويتضح من خلال هذا الأمر مدى الرقابة الصارمة والشديدة التى فرضها نابليون على المطبعة فى المادتين الخامسة والسادسة؛ حيث لا تصدر عنها مطبوعات بغير علم القيادة العامة أو تذيع ما من شأنه أن يمس النظام أو يسىء إلى الرأى العام الفرنسى أو المصرى. أما عن مكان المطبعة بالقاهرة، فقد كانت دائمًا ملازمة لمعسكرات الجيش، وعندما ثارت القاهرة فى أكتوبر 1798م نُقلت المطبعة إلى الجيزة ولكنها عادت إلى القاهرة بعد أن أخمدت الثورة ونقلت إلى القلعة فى النهاية لأنها كانت أحد معسكرات الجيش الفرنسى. يذكر أن مجلة ذاكرة مصر المعاصرة هى مجلة ربع سنوية صادرة عن مكتبة الإسكندرية عن مشروع ذاكرة مصر المعاصرة، وهو المكتبة الرقمية التى تضم تاريخ مصر من عهد محمد على وحتى نهاية عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات.. رئيس تحريرها الدكتور خالد عزب؛ المشرف على مشروع ذاكرة مصر المعاصرة، وسكرتير التحرير سوزان عابد والتصميم والإخراج الفنى لشادى النجار.