مادام الوضع الثقافى كارثيا، والحكام فاسدين، والتخلف فى كل مكان.. فلماذا لا ترحل عن منصبك فى المركز القومى للترجمة، وتترك النظام الذى خدمته وتعلن توبتك عن المناصب التى تحتقرها؟ قد نحتاج إلى أن نفتح المندل أو أن نقرأ الكف، ونضرب الودع لنفهم ما الذى يفعله الدكتور جابر عصفور، فعلى مدى مقالين متتاليين فى جريدة الأهرام، شن الدكتور جابر عصفور هجوما حادا على الوضع الثقافى والمثقفين ونظام الحكم بأكمله، وإذا كان الدكتور جابر عصفور بكل تاريخه الملتصق بصناعة القرار فى مصر، ينقلب على المؤسسة التى خدمها، والنظام الذى ساهم فى تجميله كل هذه الفترة، وما يزيد من الأمر حيرة، هو أن أمين عام المجلس الأعلى للثقافة سابقا، ورئيس المركز القومى للترجمة حاليا، هاجم «نظامه» ومؤسساته فى جريدة الأهرام، وهى الجريدة الحكومية الأولى، فهل فى الأمر أمر؟ وهل أخذ الدكتور جابر الضوء الأخضر قبل كتابة هذين المقالين؟ أم أن النظام يريد أن يستخدمه مرة أخرى ليبدو كما لو كان ينقى ذاته داخليا، ويفسح للناقدين المجال لكى يجلدوا ذاتهم ومؤسساتهم؟ فى الوقت الذى يمارس رجال الدولة العديد من الضغوط السياسية والترهيبية على وسائل الإعلام الخاصة، ليكون الناتج النهائى أن يتساوى الإعلاميان الرسمى والخاص فيما يتعلق بسقف الحرية، وبالتالى ينجذب إلى الإعلام الحكومى شرائح جماهيرية أكبر، وفى ذات الوقت تتقلص أعداد المقبلين على الصحف الخاصة بعد أن يحجموها ويهددوها كما فعلوا مع جريدة الدستور، وبرنامج القاهرة اليوم، وغيرهما الكثير، أم أن الأمر كله لا يتعدى تصفية حسابات من جانب الدكتور جابر مع أصدقائه القدامى؟ الثقافة المصرية فى كارثة، وإنقاذ الثقافة المصرية، عنوان المقالين المنشورين فى الأهرام بتاريخ 25 أكتوبر و1 نوفمبر من العام الحالى، وفيهما يستعرض الدكتور جابر أحوال الثقافة المصرية، وما أصابها من تدنٍ وتدهور، متسائلا عن الحل، ولائما صناع القرار على ما وصل إليه الحال، كيف هذا يا دكتور وأنت المسؤول ولست السائل، وأين كنت وكل هذا التدهور والفساد يتسرب إلى جسد الدولة التى كنت أنت إحدى أهم قياداتها، ولماذا هذا التخبط المفاجئ والانقلاب الحاد على المبادئ التى كنت ترددها بالأمس القريب؟ تعلمنا من الدكتور جابر كيف نحب الحياة فى شكلها المستنير الجميل، لكن للأسف ما إن تفرغ من قراءة كتاباته حتى يتسرب إليك إحساس بأن كل ما كتبه لم يزد عن كونه «حبرا على ورق» ولنا الحق طبعا أن نختلف مع الدكتور جابر وننتقده، لأنه أحد الذين علمونا فضيلة الاختلاف، وغرسوا فينا غريزة المعرفة وحرية التعبير عن الرأى، فالدكتور جابر عصفور الذى خدم فى أروقة وبلاط وزارة الثقافة، يحكم على الوضع الثقافى بأنه كارثى، ويجعل من نفسه حكما، وجلادا على قيادات وزارة الثقافة، بينما من المفترض أن يتمتع بقدر من الحيادية، ويحاكم نفسه «بالمرة» فهو بلا منازع أحد أهم المسؤولين عن العمل الثقافى العام، وأحد أكبر المعمرين فى مناصبهم القيادية، وأحد أكبر المسؤولين عن هذه الكارثة. غرابة المقالين عن السياق العام لكتابات عصفور، تجعل الواحد يتساءل، ما الذى دفعه لكتابة هذين المقالين فى هذا التوقيت، فعصفور فتح النار على الجميع، وكأنما يريد أن يغسل يديه من أية شبهة قد تلتصق به، فمن ناحية هاجم قانون الطوارئ، لكنه بالطبع لم يشر إلى أية حادثة ترتبت على وجود هذا القانون، كما أدان عدم التزام الدولة بالقوانين المدنية، لكنه لم يفعل شيئا يذكر فى ترسيخ دعائم هذه الدولة، كما أنه هاجم وزارة الثقافة، معتبرا أنها لم تقم بدورها المطلوب من بناء المتاحف والمكتبات، برغم أنه كان منذ قليل يفاخر بكم المتاحف والمكتبات التى أنشأها فاروق حسنى، فما الذى يجعل مثقفا كبيرا مثل الدكتور جابر عصفور يشن هذا الهجوم الحاد على مؤسسة كان هو منذ فترة وجيزة أحد أهم راسمى سياستها وأول منفذيها. لأول مرة يستخدم الدكتور جابر عصفور هذه اللهجة الحادة فى نقده للنظام السياسى والثقافى، فكثيرا ما كان يلمح إلى ما كان يسميه «أوجه القصور»، لكن أن يصل نقده إلى هذه الدرجة من العنف، فهذا ما لم نعهده فيه، فمقالا عصفور يؤكدان نفس المعانى، وتقريبا يستخدم نفس الجمل، حول حقوق المرأة المهدرة، وضرورة عودة المجلس الأعلى للشباب وإلى اعتباره وزارة مستقلة، والتباكى على أيام كانت مصر ترفع شعار الدين لله والوطن للجميع، بالإضافة إلى مهاجمة النظام الذى مازال ينعم به بنبرة حانقة وحادة، كما لو كان قد خاب أمله فى شىء ما كان يتمناه، فقرر أن يهدم المعبد على كهنته، ناسيا أنه أكبر الكهنة وعراب المناصب القيادية بالوزارة، وهنا من حق المندهشين أن يتساءلوا: لماذا يتمسك عصفور بمنصبه رئيسا للمركز القومى للترجمة مع العلم أن هذا المركز يساهم، فى تجميل الوجه القبيح للنظام الذى يرفضه وينتقده، ولماذا لم يطرح الدكتور جابر عصفور هذا الحوار الساخن بين أروقة وزارة الثقافة باعتبارها أفكارا تطويرية، من شأنها إصلاح المؤسسة من الداخل، وبالمناسبة شعار الإصلاح من الداخل هذا هو الذى رفعه جابر عصفور، حينما دخل إلى نادى قيادات وزارة الثقافة، فهل يئس الدكتور جابر عصفور من الإصلاح من الداخل، أم أن أهداف الدكتور قد تغيرت؟ وفضل أن يرمى «كرسى فى الكلوب»، على رؤوس من تغنى بأفضالهم على الثقافة المصرية، أم أن الدكتور جابر عصفور يئس من دور الرجل الثانى فى وزارة الثقافة، وزاغت عيناه على كرسى الوزير؟ أم أن ناقدنا الأكبر يعانى من موجة تخبط حادة بين كونه مثقفا حقيقيا وفى ذات الوقت أحد المدافعين عن الأنظمة الفائزة فى مصر وليبيا والدول الصديقة؟