فى الطابق الثالث من بناية عتيقة مبنية على الطراز اليونانى، حيث عيادة طبيب القلب الشهير أجلس محسن والدته على الكرسى الشاغر الوحيد فى صالة انتظار المرضى فقد كانت العيادة مزدحمة تماماً بما يشير إلى أن دور الوالدة فى الكشف لن يحين قبل مرور ساعة على الأقل فخرج ليقف على سلم البناية فى تلك المساحة الفاصلة بين العيادة والشقة المقابلة لها وكانت الشمس فى طريقها إلى المغيب وقد أرسلت بعضاً من أشعتها الصفراء من خلال نافذة السلم ذات الزجاج الملون لتنير المكان بإضاءة خافتة.. أشعل محسن سيجارة وأخذ ينفث دخانها محاولاً طرد ملل الانتظار ناظراً إلى عقارب ساعة يده من آن إلى آخر وكأنها تلدغه ثم نظر فجأة نحو باب الشقة المقابلة للعيادة فى ارتياب فهو منذ فترة يشعر بعين تراقبه من خلف العين السحرية المثبتة على ذلك الباب الذى يعلوه التراب ثم سرت فى جسده قشعريرة خفيفة عندما بدأ هاتفه الجوال فى الرنين محسن : ألو .. كيف حالك يا إبراهيم ؟ هل اتممت حجز وشراء التذاكر ؟ إبراهيم : نعم ... لقد حجزت على الخطوط الاسترالية إلى سيدنى بعد أربعة أيام وسوف أمر عليك الان لأعطيك تذكرتك ... لابد وأن نسرع بإعداد حقائبنا فلم يعد هناك المزيد من الوقت . محسن : لا .. تعال بعد ساعتين فأنا الان مع الوالدة عند الطبيب فقد شعرت ببعض التعب ليلة أمس .. سأكون فى انتظارك .. مع السلامة شرد تفكيره فيما ستفعل أمه بعد هجرته الى استراليا انه يشفق عليها من الوحدة فهو ابنها الوحيد الذى قامت على تربيته بعد وفاة والده منذ أكثر من خمسة عشر عاماً كان هو فيها كل حياتها وجل اهتماماتها ولكنه كان يحاول مغالبة شعوره هذا محدثاً نفسه بأنه لم يقدم على السفر الا بعد ان اعلنت عن موافقتها ومباركتها لتلك الخطوة فى ظل ظروفه الحالية فقد حصل على بكالوريوس الهندسة منذ خمسة أعوام ولم يتمكن حتى الان من العمل سوى بمهنة مندوب مبيعات والاعوام تمر دون تقدم على الصعيد المهنى او المادى وهو كأى شاب يرغب فى اثبات ذاته وتكوين اسرة. قطع شروده صوت الصرير الناجم عن فتح باب الشقة المقابلة للعيادة فالتفت نحو الباب الذى ظهرت من خلفه سيدة عجوز ذات وجه منير ببشرة بيضاء متغضنة يسيل على جبينها خصلات فضية هربت من تحت طرحتها البيضاء وأشارت بيدها نحو الصالة داعية إياه للجلوس ، تقدم محسن فى خطوات مترددة فلسعت انفه رائحة عطنه تنم عن ان تلك الشقة لم تفتح نوافذها منذ فترة وجلس على مقعد مواجه لباب الشقة المفتوح فى موضع يمكنه من مراقبة العيادة المقابلة حيث تجلس والدته بينما جلست العجوز على مقعد جانبى قريب ، وفى ضوء أصفر خافت صادر عن المصباح السليم الوحيد فى تلك الثريا العتيقة التى تتوسط سقف صالة يعلو جدرانها مجموعة من الصور لأشخاص مؤطرة بخشب مذهب انطفأ لونه بفعل الزمن بدأ حديثهما.. العجوز : إن هذا الطبيب هو أشهر أطباء القلب فى المدينة ودائماً ما تكون عيادته مزدحمة .. ارتح يا بنى فى جلستك إلى أن يحين دور الوالدة .. هل ترغب فى قليل من الشاى ؟ محسن : أشكرك ،، هل تعيشين بمفردك هنا ؟ .. ( مشيراً إلى الصور المعلقة ) من هؤلاء ؟ العجوز : نعم أعيش بمفردى منذ اثنى عشر عاماً( مشيرة إلى الصور المعلقة ) هذا هو زوجى وقد توفى منذ خمسة وعشرين عاما قمت فيها بمحاربة كل من نصحنى بالزواج بحجة إيجاد الأنيس عند الكبر وتفرغت لتربية ورعاية أولادى إلى أن حصلوا على شهاداتهم الجامعية، فهذا هو ابنى وقد هاجر إلى كندا وهذه هى ابنتى وقد سافرت برفقة زوجها الذى يعمل بإحدى دول الخليج محسن : ألا يهاتفانك من حين إلى آخر ويزورانك بانتظام ؟ العجوز : فى بداية سفرهما كانا يهتمان بالاتصال ويخططا لزيارتى سنوياً ولكن للغربة والبعاد أثر، فقد بردت العواطف وارتخى حبل الارتباط مع ازدياد المشاغل والاهتمامات ، فلم يتصلا بى منذ أشهر ولم يزورانى منذ أعوام ، ولكن ها هو ابنى قادم اليوم بعد أن اتصل به أحد الجيران ووبخه على طول الغياب وبمناسبة حضوره الاضطرارى هذا فقد أعددت له مفاجأة ... تنامى إلى أسماع محسن صوت الممرض وهو ينادى باسم والدته بعد أن حل دورها فاعتذر للعجوز على المقاطعة واستأذنها للمغادرة مسرعا نحو الوالدة التى تأبطت ذراعه فى اتجاه غرفة الكشف وهناك طمأنه الطبيب على صحتها بعد إجراءات الكشف المعتادة مشدداً على ضرورة الانتظام فى تناول الدواء وبعد أن غادرا غرفة الكشف وجدا جميع المرضى الذين لم يحن دورهم بعد وقد تركوا صالة الانتظار وتجمهروا أمام الشقة المقابلة للعيادة فأجلس والدته وراح يحاول اختراق ذلك التجمهر وهناك وجد شاباً يجهش فى البكاء وبجواره بعض حقائب السفر فسأل أحدهم عما يحدث فأفاده بأن هذا الباكى هو ابن السيدة التى تقطن هذه الشقة وقد هاتفه احد الجيران وطالبه بالحضور بعد انبعاث الروائح من الداخل وعند حضوره اكتشف أنها توفيت قبل أيام على مقعد الصالة ، اندهش محسن وتساءل إذا كان الأمر كذلك فمع من كان يجلس ويتحدث قبل قليل ؟ وهل هذه هى المفاجأة التى أعدتها العجوز؟ لقد كانت مفاجأة له بقدر ما كانت لابنها .. عاد محسن مسرعاً إلى حيث تجلس والدته ليلثم يدها بقبلة حارة ثم سحب هاتفه الجوال من جيبه ليتصل بإبراهيم ليبلغه عن عدوله عن السفر قائلا عن قناعة( رب هنا رب هناك).