كنا فى الساعة العاشرة صباحاً وأنا والصديق أمين إسكندر وكيل مؤسسى حزب الكرامة "تحت التأسيس"، فى منزل الصديق الدكتور خالد جمال عبد الناصر شفاه الله. ذهبت إلى الدكتور خالد بعد اتصال تليفونى منه يدعونى إلى زيارته لأمر مهم لم يفصح عنه فى مكالمته التليفونية، ومن على باب المنزل اصطحبنا خالد إلى حجرة الصالون لأجد شخصا أسمر ملامحه أفريقية أصيلة، اقترب خالد منه مهللا سعيدا وكأنه طفلا بريئا: "أقدم لكم باتريس باتريس لومومبا". فهمت على الفور أن باتريس ابن الزعيم الأفريقى لومومبا هو سر دعوتى لهذا اللقاء الذى تخلله ضحك وبكاء وذكريات مؤلمة وأخرى سعيدة سمعتها من باتريس الذى يتحدث العربية كما يتحدثها المصريون. والمعروف أن الكونغو واحدة من دول حوض النيل أى أن لنا معها مصلحة مياه النهر، وللتذكير فإن لومومبا هو البطل الأفريقى الفذ الذى قاد الكونغو نحو الاستقلال من بلجيكا، وذلك من خلال تأسيسه للحركة الوطنية عام 1958، وحظى لومومبا بشعبية واسعة بفضل قيادته للمظاهرات المضادة للاستعمار البلجيكى أدت إلى اعتقاله ستة أشهر، ثم أفرج عنه لإنجاح المفاوضات التى كانت تتم فى بروكسل لبحث مستقبل الكونغو، ونقل لومومبا من السجن إلى بروكسل بالطائرة للمشاركة فى المفاوضات التى انتهت بقرار يمنح الكونغو الاستقلال بعد استعمار دام 80 عاما. وأجريت انتخابات فى مايو عام 1960 تنافس فيها أكثر من مائة حزب كونغولى، وحققت الحركة الوطنية بقيادة لومومبا انتصارا ساحقا، لكن بلجيكا التى كانت تدير البلاد حاولت إخفاء النتائج ، وإسناد الحكم الى حليفها جوزيف اليو، لكن الضغط الشعبى أجبرها على تكليف لومومبا بتشكيل الحكومة، وتم ذلك بالفعل فى يوم 22 يونية عام 1960 ، وسلم ملك بلجيكا برداون الحكم رسميا إلى لومومبا، وحدثت أزمة أثناء حفل التسليم، بعد أن ألقى لومومبا خطابا عنيفا أمام البلجيكيين، وسمى بخطاب "الدم والدموع والنار" تحدث فيه عن معاناة الكونغوليين وما تعرضوا له من ظلم واضطهاد. لم تنعم الكونغو بالاستقرار أكثر من أسبوعين حيث حرضت بلجيكا تشومبى حاكم إقليم كاتنجا الذى تتركز فيه ثروات الكونغو على إعلان الانفصال، فطلب لومومبا من الأممالمتحدة إرسال قوة دولية لحفظ القانون بهدف منع بلجيكا من العودة إلى لاحتلال بلاده، واتصل بعبد الناصر ونكروما وسيكوتورى طالبا منهم المساهمة فى القوات الدولية، وعندما أرسل همرشلد سكرتير عام الأممالمتحدة خطابا إلى عبد الناصر يطالبه باشتراك مصر فى القوات الدولية، ولم يتردد عبد الناصر فى الموافقة ، وأرسل كتيبة من المظليين بقيادة سعد الدين الشاذلى العقيد وقتئذ، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة فى حرب أكتوبر عام 1973 وكان برتبة فريق ، وتطورت الأحداث بعد ذلك حتى مقتل لومومبا، وتلقى عبد الناصر الخبر مساء يوم 12 فبراير وهو الذى أكد النبأ رسميا للعالم ، وأعلن أنه يضع أسرة لومومبا تحت حماية مصر. ما سبق خلفية سريعة على شخصية لومومبا ، وفى إطارها دارت تفاصيل اللقاء الذى تم فى منزل خالد عبد الناصر مع باتريس ابن لومومبا ، وإذا كانت هى قصص فى حكم التاريخ إلا أنها توضح أنه يوجد فى إفريقيا جيل من أبناء قيادات التحرر الأفريقى قلبهم فى مصر ، والسؤال كيف يمكن الاستفادة منه ؟ سألت خالد عبد الناصر عن إعلان الوالد أنه يضع أسرة لومومبا تحت حماية مصر فقال ، كل شئ أتذكره فى هذه القصة كأنه حدث بالأمس ، فاكر أن الوالد قال لنا: "تعالوا أنا عايزكم"، وكانت الساعة الثامنة مساء يوم من عام 1961 ، وذهبنا لنجد باتريس وفرنسوا وجوليانا ، ثلاثة أطفال يتحدثون الفرنسية ، ونحن لا نتحدثها ، لكن تفاهمنا بلغة الأطفال ، قال لنا روحوا اتفرجوا على سينما ، فذهبنا إلى السينما الموجودة فى المنزل وشاهدنا فيلم "طرازان "، قبل هذا اللقاء وفى نفس اليوم أتذكر ان عبد الناصر طلبنا لنكون معه فى لقاء مجموعة أطفال مثلنا من العراقيين ، وجلسنا معهم وتم التقاط الصور ، وكنت أتصور أن لقاءنا مع باتريس وأخوته سيكون مثل لقاءنا بالأطفال العراقيين، لكن الحقيقة أن اللقاء كان بداية لعنوان كبير فى العلاقة التى استمرت من عام 1961 حتى الآن. واصل خالد سرد ذكرياته قائلا: أقام باتريس وجوليا وفرانس أبناء لومومبا فى شقة بالزمالك ، والتحقوا بمدرسة فرنسية ، وبدأوا فى تعلم اللغة العربية خاصة باتريس، وأذكر انه بعد سنة تقريبا سألنا الوالد: "انتم ليه مبتسألوش عن أولاد لومومبا"، وطلب من محمد أحمد سكرتيره الخاص أن يأتى بهم ، ويوما بعد يوم أصبحنا عائلة واحدة ، وأذكر يوم وفاة الوالد لم يتركنى باتريس لحظة واحدة لمدة شهر عاشه معى كاملا، كنت فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة وهو فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكنا نتقابل باستمرار، أضاف خالد ، كان عبد الناصر يقول لنا أن لومومبا أوصانى بأولاده ، والتفت خالد الى باتريس قائلا ، الأفضل أن يتحدث باتريس فى هذه النقطة. يستكمل..