أبرزها قانون المنشآت الصحية.. تعرف على ما ناقشه «النواب» خلال أسبوع    الجمارك تكشف حقيقة إصدار قرار بوقف استيراد السيارات فى مصر    الإسكان تتابع جهود الاستفادة من الحمأة الناتجة عن معالجة الصرف الصحي    اجتماع محافظ أسيوط مع رؤساء المراكز لمتابعة مستجدات ملف التصالح فى مخالفات البناء    جوزيب بوريل: على إسرائيل البدء فى تقبل بعض الانتقادات    جمعية الإغاثة الطبية بغزة ل«القاهرة الإخبارية»: لا توجد مستشفيات تعمل في شمال القطاع    بوليتيكو: واشنطن تدرس القيام بدور بارز في غزة بعد الحرب    لبنان يؤكد تمسكه بالقرار الأممي 1701 وانفتاحه على التعاون مع أي جهد دولي لوقف العدوانية الإسرائيلية    1-4.. ماذا يفعل الأهلي بعد التعادل سلبيا خارج الديار بنهائي دوري الأبطال؟    رسميًا| برشلونة يعلن إقالة تشافي من تدريب الفريق    الزمالك راحة من التدريبات اليوم بقرار من جوميز    الأهلى يكشف حقيقة حضور إنفانتينو نهائى أفريقيا أمام الترجى بالقاهرة    تفاصيل استعدادات شمال سيناء لامتحانات الثانوية العامة والأزهرية والدبلومات الفنية    طقس السويس.. انكسار الموجة الحارة ودرجة الحرارة تصل ل 33.. فيديو    الحزن يكسو وجه مدحت صالح في جنازة شقيقه (صور)    عائشة بن أحمد تكشف سبب هروبها من الزواج في «معكم منى الشاذلي»    «بنقدر ظروفك» و«تاني تاني» يحتلان المركزين الرابع والخامس في منافسات شباك التذاكر    خطيب الأوقاف: قصة إعمار البيت الحرام ترجع إلى السيدة هاجر    بالفيديو.. متصل: حلفت بالله كذبا للنجاة من مصيبة؟.. وأمين الفتوى يرد    مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: لا توجد مستشفيات تعمل فى شمال القطاع    التعليم: 815 ألف طالب وطالب يؤدون امتحانات الدبلومات الفنية غدا    ما هو موعد عيد الأضحى لهذا العام وكم عدد أيام العطلة المتوقعة؟    الاحتفال باليوم العالمي لارتفاع ضغط الدم بطب عين شمس    ضبط شخص بأسيوط لتزويره الشهادات الجامعية وترويجها عبر فيسبوك    بالأسماء.. إصابة 10 عمال في حريق مطعم بالشرقية    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من ميت سلسيل بالدقهلية    "طرد للاعب فيوتشر".. حكم دولي يحسم الجدل بشأن عدم احتساب ركلة جزاء للزمالك    قائمة أسعار الأجهزة الكهربائية في مصر 2024 (تفاصيل)    الشرطة الإسبانية تعلن جنسيات ضحايا حادث انهيار مبنى في مايوركا    «التنمية الصناعية»: طرح خدمات الهيئة «أونلاين» للمستثمرين على البوابة الإلكترونية    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    وزارة الداخلية تواصل فعاليات مبادرة "كلنا واحد.. معك في كل مكان" وتوجه قافلة إنسانية وطبية بجنوب سيناء    تعشق البطيخ؟- احذر تناوله في هذا الوقت    في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا (4)    نقيب المحامين الفلسطينيين: قرار محكمة العدل ملزم لكن الفيتو الأمريكي يمكنه عرقلة تنفيذه    السيدة زينب.. هل دفنت في مصر؟    وزارة الثقافة تحتفي بأعمال حلمي بكر ومحمد رشدي بحفل ضخم (تفاصيل)    أبرزها التشكيك في الأديان.. «الأزهر العالمي للفلك» و«الثقافي القبطي» يناقشان مجموعة من القضايا    4 أفلام تتنافس على جوائز الدورة 50 لمهرجان جمعية الفيلم    الإسلام الحضاري    الأكاديمية العسكرية المصرية تنظم زيارة لطلبة الكلية البحرية لمستشفى أهل مصر لعلاج الحروق    وزير العمل يشهد تسليم الدفعة الثانية من «الرخص الدائمة» لمراكز التدريب    مجلس أمناء جامعة الإسكندرية يوجه بضرورة الاستخدام الأمثل لموازنة الجامعة    تعرف على مباريات اليوم في أمم إفريقيا للساق الواحدة بالقاهرة    الإسكان: تشغيل 50 كم من مشروع ازدواج طريق «سيوة / مطروح» بطول 300 كم    رئيس الأركان يتفقد أحد الأنشطة التدريبية بالقوات البحرية    أخبار الأهلي : دفعة ثلاثية لكولر قبل مواجهة الترجي بالنهائي الأفريقي    سول تفرض عقوبات ضد 7 أفراد من كوريا الشمالية وسفينتين روسيتين    بوتين يوقع قرارا يسمح بمصادرة الأصول الأمريكية    "صحة مطروح" تدفع بقافلة طبية مجانية لخدمة أهالي قريتي الظافر وأبو ميلاد    الصحة العالمية: شركات التبغ تستهدف جيلا جديدا بهذه الحيل    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    التموين تعلن التعاقد علي 20 ألف رأس ماشية    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    مقتل مُدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية    نقيب الصحفيين يكشف تفاصيل لقائه برئيس الوزراء    إصابة 5 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة بسور محطة مترو فيصل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن والده المنتج ممدوح الليثى: لم نكن أسرة ميسورة الحال ولكن كنا نعيش فى سعادة.. وكان «بابا» رجلاً يحب عمله.. وأمى تمارس الأمومة بشكل صحيح

إصابة أخى الصغير شريف بالسكر هزت أرجاء البيت كله وعند وفاته لم يحتمل أبى فراقه فمرض بالقلب
كانت أكبر كارثة ممكن تحيط بى يوم أن أغضبه أو أتكلم بأسلوب لا يعجبه على المستوى الخاص أو العام
منذ جئت إلى هذه الدنيا كان أول من رأته عينى.. أول ابتسامة كانت له، وأول ضحكة كانت فى حضنه.. إنه يعرفنى منذ أن كنت نطفة.. كان يهدهدنى ويقذفنى إلى السماء فأشعر كأنى مثل الطائر يطير بجناحيه، وكان يتلقفنى قبل أن أقع على الأرض ليأخذنى ويلف بى.. كان دائما يحملنى إلى سطح العمارة «علشان أتشمس» وهو يحرك يده ووجهه بحركات لذيذة يضحك عليها كل طفل، وعندما بدأت أحبو كان يمسك بيدى ويساعدنى وعندما كنت أهم أن أقع على الأرض كان يلحق بى ويرفعنى إلى أعلى وهو يحنو علىّ، وبيده الرقيقة كان يطبطب علىّ برفق وحنان وحب وبشاشة، وجهه سعيد وهو يرانى أحبو على أربع ثم أسير على قدمين، وعندما ظهرت أسنانى وبدأت أبدلها كان يوهمنى أنه طبيب أسنان ويمسك بقطنة صغيرة مبللة بماء دافئ ثم يمسك السنة وبخفة يد عجيبة أفاجأ بالسنة (الملخلخة) فى يده وهو يقول يا شمس يا شموسة خدى سنة عمورة واديلو سنة جديدة.. ويأخذ بيدى ونذهب إلى البلكونة ويقول لى: «ارمى السنة فى الشمس علشان تطلع لك سنة جديدة». وعندما بدأت أكبر وأدخل الحضانة، وأنا أبكى عندما يتركنى.. فيجلس حتى أتوقف عن البكاء وسط محاولات من المشرفين على الحضانة أن يرحل ويتركنى وحيدا.. وكان أصعب شىء بالنسبة لى أن يرحل (ويتركنى وحيدا).. منذ نعومة أظافرى.. وفى الظهيرة يأتى للحضانة ويأخذنى لأعود إلى المنزل، وطبعا كان أهم شرط علشان أصعد إلى المنزل بعد عودتى من الحضانة أن يشترى لى شيكولاتة من عم سعد بتاع الشيكولاتة والفول السودانى الذى يجلس أمام منزلنا فى ميدان عبدالمنعم رياض.. ويا ويله ويا سواد ليله إذا لم أحصل على الشيكولاتة.. أخلع الكاسكيتة بتاعتى وأرميها فى الشارع وأبكى بحرقة كأنى أعلن اعتراضى على أنه لم يشتر لى شيكولاتة اليوم. وبدأت أكبر وأدرك أن هذا الرجل يمثل أجمل شىء فى حياتى، فهو صديقى وحبيبى وأخيرا تعودت أن أناديه بلقب جديد لم أكن قد تعلمته من قبل وهو كلمة (بابا)، وبدلا من أن أناديه باسمه مع الأيام أصبح بابا.. ورغم أنه بابا فإن ذلك لم يمنعنى من أن ألعب معه ويلعب معى فهو فى الأصل صديقى.
رحل صديق العمر، وأعيش على ذكرياته الخالدة فى ذاكرتى، فلن أنسى عندما كنا نسافر معا إلى الإسكندرية فى الصيف، وذات يوم كنت ألعب أمامه على البحر، وما هى إلا لحظات واختفيت، وجلست أبكى: فين بابا؟.. عايز بابا، وما هى إلا دقائق شعرت فيها بالضياع لمجرد أنى تُهت عن الشمسية التى كان يجلس تحتها هو وأمى وأصدقاؤهما.. حتى وجدت نفس الكف واليد التى أعرفها تربت على كتفى، وتحتضننى، وترفعنى إلى السماء وأنا أرى على وجهه عرقا شديدا من جهد بحثه عنى هو وصديقه.. وقد تورمت قدماه وهو يسير فى الرمال الساخنة ليبحث عن ابنه الذى تاه عنه دقائق كانت بالنسبة له ساعات وبالنسبة لى أياما.. لن أنسى عندما حملت أمى فى أخى وكانت فى مستشفى الشبراويشى، وأنا أجلس معه والرائع صلاح جاهين وفى تمام الساعة 11 مساء استيقظت من نومى، وكان الأستاذ صلاح أحضر معه تورته.. فطلبت من بابا أن يعمل لى عيد ميلاد رغم أنه ليس يوم ميلادى، وإنما كنا ننتظر ميلاد أخى شريف، وفعلا غنيت أنا وبابا وعمو صلاح (هابى باريزدى تويو).. وما هى إلا سويعات قليلة وكنا نحتفل بصديق جديد جاء إلى الدنيا، وهو أخى شريف وجاء شريف، وأصبحنا أربعة بابا وماما، هذه السيدة العظيمة التى أحتاج إلى ورقات كثيرة كى أحكى عنها.. وأنا وشريف، وامتلات أركان المنزل بالسعادة.. لم نكن أسرة ميسورة الحال.. بل كنا نعيش فى سعادة.. وكان صديقى بابا رجلا يحب عمله.. وكانت أمى تمارس مفهوم الأمومة بشكل صحيح تعمل فى الصباح، وتأتى إلى المنزل قبل عودتى أنا وشريف.. كى تحضر لنا الغداء.. وفى العيد ننزل لتشترى لنا أمى لى ولأخى «هدوم» العيد وتقول لنا «بابا اشتغل كثير علشان يجبلكم هدوم العيد»، وفى الصباح الباكر يكون بابا وأنا وشريف فى طريقنا للجامع علشان نصلى العيد ثم يأخذنا ونذهب إلى حى زينهم حيث دفن جدى وجدتى لنقرأ لهما الفاتحة.. كان يومى يبقى أسود لو سقطت فى مادة والمطلوب إنى أوقع الشهادة منه كل شهر وبصراحة كنت بخاف من هذه اللحظة.. وكان دايما يقولنا أنتم رجالة رغم أن عمرى لم يتجاوز فى ذلك الوقت عشر سنوات وشريف 6 سنوات.
وفجأة جاء زلزال ليهز أركان هذا البيت البسيط.. فى لحظة أغمى على شريف وهرول أبى وأمى إلى الدكتور.. وبعد تحاليل تبين أن شريف ذا الست سنوات أصيب بمرض السكر.. وبدأت الفرحة ترحل من منزلنا وبدأ الحزن يعرف طريقه إلينا، وهنا بدأ الفصل الثانى فى قصتى وصديقى بابا وأمى الحبيبة وأخى الجميل وبدأ الحزن يدب فى المنزل عقب إصابة الصديق الصغير والشقيق الصغير شريف بمرض السكر والذى أصبح لزاماً عليه، على طفل فى عمر 6 سنوات، أن يحصل على حقنة أنسولين قبل كل وجبة يأكلها.. تبدل الحال وتحول الحال فى منزل كان يشعر أهله الأربعة بالسعادة.. مرض شريف هز أرجاء البيت كله، حزن أبى وأمى وحزنت كثيرا وأنا أراه يتألم يوميا وهو يحصل على هذه الحقنة، ومرت الأعوام منذ ست سنوات، وحتى بلغ تسع سنوات ونحن نعيش كأسرة نحاول أن نلملم بعضنا البعض، نداوى شريف، نطبطب عليه، كان صديقى العزيز، أبى كل همه ألا يحرم شريف من أى شىء، كان يفكر كيف لطفل فى عمر التسع سنوات لا يستطيع أن يأكل الشيكولاتة والحلويات التى يأكلها طفل فى سنه، وفى النهاية قرر أن يفعل شيئا، وبالفعل أخذ يسأل ويسأل إلى أن عرف أن هناك فى الخارج من يقومون بعمل شيكولاتات وحلويات لمرضى السكر وأرسل خصيصا واشترى له هذه الحلويات، كان يحز فى قلبه وقلبنا أن نشعر أنه لا يأكل الشيكولاتة.
مرت السنوات إلى أن جاءت هذه اللحظة المشؤومة فى حياتنا هذه اللحظة جاءت فى صيف أغسطس 1983، كنا اعتدنا أن نسافر دائما فى الصيف إلى الإسكندرية أنا وأبى وأمى وأخى شريف نحصل على شقة هناك بالإيجار، وبعد ثلاثة أيام من العودة إلى القاهرة فجأة وبدون أى مقدمات أصيب أخى شريف بمرض غريب، آلامه شديدة بالمعدة، فأحضر أبى الطبيب وكشف عليه وأعطاه الدواء وحصل شريف على الدواء، وفى نفس الليلة وما هى إلا ساعات قليلة كنا نشعر بشىء غريب يدب فى أرجاء المنزل، وما هى إلا لحظات قليلة حتى جاءت الساعة السادسة صباحا وفوجئنا بشريف صامتاً لا يتحرك، أحضرنا الطبيب وجاء طبيب شهير، فى ذلك الوقت كان طبيب أخى متخصصا فى السكر، الدكتور زكريا الباز، دكتور زكريا كشف على شريف، فى لحظات كان يحمله ونجرى خلفه إلى سيارة أبى ونهرول بالسيارة إلى مستشفى المعادى وكان شريف ينام على رجلى فى المقعد الخلفى وأنا أقبل رأسه وأمسك بيده التى بدأت تبدو لى باردة قليلا، وما هى إلا لحظات حتى وصلنا للمستشفى، دخلنا إلى غرفة الطوارئ وبعدها بدقيقة خرج الدكتور ليقول لنا جميعا: البقاء لله شدوا حيلكم.. لم أجد إلا أبى انهار فى البكاء الشديد، وسقطت على الأرض مغشيا على، وأمى من هول الذهول أصيبت بإغماء شديد.
بعد وفاة شريف أخى وصديقى وحبيب عمرى، حاول كل منا (أبى وأمى وأنا) أن ننشغل فى العمل.. فعلى مستوى أبى، كان يعمل ليل نهار، وبدأت تظهر عليه علامات الإعياء، ولن أنسى تلك الليلة الصعبة فى شتاء عام 1986 وأثناء أحداث الأمن المركزى والقاهرة كلها تعيش تحت حظر التجوال، ويصاب أبى بأول أزمة قلبية، ونهرول أنا وأمى إلى مستشفى الشبراويشى، وسط نقاط تفتيش كثيرة حتى نصل إلى غرفة العناية المركزة، ونعيش ليلة عصيبة، وهو بين الحياة والموت، وفى ذلك اليوم اكتشفنا أن أبى مريض بمرض القلب.. وأن قلبه لم يحتمل فراق فلذة كبده شريف، فأصابه الإعياء الشديد، ورغم ما كان يظهره للعامة من قوى ورباطة الجأش فإن قلبه كان واهنًا ضعيفا.. عدنا من مستشفى الشبراويشى فى اليوم التالى، بعد أن أصيب قلبه بضعف شديد لم يعرف الأطباء سببه، وإن كنت أنا قد عرفت.. فهناك جزء فى هذا القلب قد مات بعد رحيل شريف.. وبدأت رحلة مرض طويلة حار أطباء القلب فى تشخيصها.. ففى عام 1986 كان عمر أبى- رحمه الله- 49 سنة.. فكيف لرجل فى هذه السن يصاب بضعف شديد فى عضلة القلب، بحيث تصل قدرته إلى 30% فقط؟! وكنت أقول لهم: لقد مات فلذة كبده، وفى مطلع عام 1990 أصيب بمرض السكر.. والغريب أنه عندما أصيب بهذا المرض كان سعيداً لم يكن حزيناً.. ربما لأنه بدأ يعيش مرارة وألم تجربة شريف. والأغرب أنه كان يفعل مثل شريف.. يختبئ ليأكل شيكولاتة منع منها.. لكنه كان دائماً، وعند كل حقنة أنسولين يأخذها، كان يقول: «الله يرحمك يا شريف.. ده حقنة الأنسولين دى مؤلمة».
فى تمام الساعة الخامسة فجرا فى صيف عام 2008.. استيقظت على مكالمة تليفونية.. وكانت من والدتى.. قالت 5 كلمات (أبوك تعبان أوى.. تعالى بسرعة)، لم أجد نفسى سوى فى دقائق قليلة أرتدى ملابسى وأجرى إلى السيارة فى سرعة البرق وكان منزلى يبعد عن منزل والدى عشر دقائق، قطعت تلك المسافة فى 5 دقائق يمكن لخلو الشوارع من المارة ولسيرى فى الطريق العكس.. وصلت منزل أبى، وجدته فى قمة الإعياء ينهج بشدة لا يقدر أن يأخذ نفسه.. فى سرعة البرق حملته ومعى بواب العمارة إلى سيارتى وجريت إلى مستشفى الصفا ومعى أمى.. وما هى إلا لحظات ودخلنا إلى غرفة العناية المركزة فى مستشفى الصفا.. ثوان والطبيب المناوب يقيس الضغط الذى كان وصل إلى 50/10، ولمن يفهم أن ذلك معناه الموت، والنبض تقريبا 10 وأيضا هذا مؤشر خطير.. وفجأة طلب الطبيب أن يغلق الستارة وحالة هرج ومرج فى كل مكان فى المستشفى.. انطلقت صرخة لممرضة خلف الستارة وهى تقول.. (ده مات) وفجأة وجدتنى أجرى بعد أن كنت أحتضن أمى لأدخل خلف الستارة وإذا بالطبيب ينهرنى بشدة.. اطلع بره.. وأنا لا أقدر أن أفعل شيئا.. وفجأة وجدت الطبيب الذى مازلت أذكر اسمه محمود يمسك بجهاز الصدمات الكهربائية وبدأ يعطى لقلب أبى صدمات كهربائية كمحاولة أخيرة لإنقاذه.. بعد أن تأكد لى ولأمى أنه قد مات.. ولأن الأجل لم يحن بعد.. فقد استجاب قلب أبى للصدمة الكهربائية وعاد له نفسه الطبيعى وضغطه.. وجدتنى وقد انهرت من البكاء.. فقد كنت أعيش كابوسا وفجأة نجاه الله سبحانه وتعالى.. أما أمى هذه السيدة العظيمة عندما وجدته عاش بعد أن مات.. وجدتها تسجد لله شاكرة نعمته لأنه نجّى أبى.. وكعادة أبى وخفة ظله أول سؤال سأله لى: هو فى إيه؟ هو أنا حصلى إيه؟ فرد عليه الطبيب! ربنا كتبلك عمر جديد.. وكانت أول لحظة حقيقية أمر بها وأشعر أننى قد أفقد أغلى إنسان فى حياتى، أبى، وأن الله سبحانه نجاه برحمته.. وبعدها قرر دكتور القلب الشهير أحمد عبدالعزيز أن يركب لأبى جهاز صدمات كهربائية حتى إذا أصابته مثل هذه الحالة مرة أخرى وتوقف القلب فجأة.. يعمل الجهاز ويعطى صدمة كهربائية فيعود القلب للحياة مرة أخرى.. هكذا كنا نعتقد.. لكن لا شىء يعلو إرادة الله، فعلى مدار السنوات الخمس السابقة أعطى الجهاز عدة صدمات لقلب أبى، إلا أن الجهاز لم يفلح فى يوم 1 يناير 2014 عندما توقف قلبه، ولم يستطع الجهاز أن يفعل شيئا.. لأنها إرادة الله.
وكما قلت فإن جهاز الصدمات الكهربائية الذى وضعه أبى فى جسده بعد أن أصابته السكتة القلبية فى يوليو 2008 ونجا منها، جعلته فى البداية يشعر بالضيق، فهو جهاز فى حجم علبة السجائر يوضع بجانب القلب بعملية استغرقت ما يقرب من ثلاث ساعات وكان هذا الجهاز يحول دون مرور صاحبه من بوابات التفتيش الإلكترونى الموجودة حالياً فى كل مكان أو حتى فى المطارات، لأنها تؤثر على عمله وبالفعل كان فى جيب أبى دائماً كارنيه مكتوب عليه بلغات مختلفة أن حامله لا يجب أن يمر من أجهزة التفتيش الإلكترونى.. وكم قاسينا فى سفرنا إلى بعض الدول نتيجة أنهم لا يدركون أنه لا يجب أن يمر أبى من خلال جهاز التفتيش الإلكترونى وإلا توقف الجهاز الذى ينظم حركة قلبه ويعطيه الصدمات الكهربائية. كان والدى يشعر بالضيق كونه تحت رحمة هذا الجهاز، وكان كل شاغله أن يعرف كم تبقى من بطارية الجهاز قبل أن يتوقف، وبالفعل عندما سافرت معه إلى ألمانيا فى شهر نوفمبر الماضى، ودخل إلى المستشفى الملحق بجامعة ميونخ قال له الطبيب الألمانى الشهير كير، إن الجهاز بطاريته عمرها الافتراضى سينتهى بعد سنتين وثمانية أشهر.. فضحك أبى بشدة وقال له بلغة إنجليزية بسيطة، إنه لا يحتاج لكل هذه المدة وأنه يتوقع ألا يحتاج هذه المدة الباقية.. وعدنا إلى القاهرة بعد أن أوصى الطبيب الألمانى بعمل صدمة كهربائية أخرى لقلب أبى فى منطقة الأذين، حيث إن أبى كان يعانى فى هذه الفترة من رفرفة أذينية فى القلب.. وهذه الصدمة قد تعيد العمل مرة أخرى للأذين فيسهم فى رفع كفاءة عضلة القلب التى لم تتجاوز 30% على أفضل تقدير. قلت لبابا: «ماتيجى نعمل هذه الصدمة الكهربائية هنا فى ألمانيا». فرد علىّ قائلاً «لا»، قلت له: «ليه».. قال لى: «مش عايز أبهدلك معايا وتحتاس بى لو جرى لى حاجة أو مت هنا». قلت له: «بعد الشر ليه بتقول كده» قال لى: «مش عارف بس حاسس إن المرة دى آخر مرة أتعب فيها» قلت له: «بقالك 30 سنة تعبان ودخلنا المستشفى فى حالات أخطر من كده.. ليه بتقول كده»، قال لى: «أنا حاسس بكده، رجعنى وخلينى أعمل العملية فى مصر». واستدار للطبيب الألمانى وسأله: هل هذه الصدمة ممكن أعملها فى مصر؟ فأجابه الدكتور الألمانى بعد أن قمت بالاتصال بطبيب والدى المصرى على التليفون: «نعم ممكن تعملها».
وخلال فترة وجودى مع أبى فى ألمانيا فى منتصف شهر نوفمبر بدأت أعيد اكتشافه.. فالإنسان منا يعيش مع والديه سنوات طويلة.. ولكن عندما يقترب منهما وبمعنى أدق يصاحبهما.. يبدأ يكتشف أنه لم يكن يعرفهما جيدا ولم يتأملهما ويتعمق فى شخصياتهما.. بل يكتشف أنه نادم على كل لحظة مرت عليه فى حياته وهو بعيد عن أبيه وأمه.. كان يقول لى: لا أنسى عندما كنت أنزل من فم الخليج علشان أروح أجيب الفطار لى ولإخوتى عبارة عن حلة فارغة أذهب بها إلى بائع الفول وأعود حتى نفطر.. كان يحكى لى عن والده بسعادة واشتياق.. ويحكى لى عن خاله حسن وكيف كان قريبا لقلبه ويحكى لى عن والدته ستى نفيسة، ويأخذ الحوار بيننا ساعات طويلة طوال الليل ولا تخلو ذاكرته وحكاياته عندما يتذكر أيام عمله ضابط شرطة فى الفيوم، وكيف كان لديه كلب وفىّ اسمه (ستيف).. وينساب شريط الذكريات مع أبى ونحن نجلس فى هذا الفندق الصغير فى ميونخ بجانب المستشفى.. وهو يحكى لى عن ذكرياته مع أمى وكيف تزوجها فى نهاية الستينيات وشهر العسل الذى قضياه فى رأس البر.. الغريب أن أبى كانت ذكرياته مختلفة بين الماضى البعيد والماضى القريب.. وكانت أجمل ذكرياته مع أمى وكيف كافحا معا بعد أن استقال هو من البوليس وكانت أمى تعمل محاسبة فى بنك مصر.. وفجأة يتحول الحوار إلى: فاكر عمك صلاح ذو الفقار لما كنا بنصيف مع بعض فى «مراقيا»؟.. فأرد عليه: إنت كنت بتحب عمو صلاح أوى، فيقول أبى: كان عمك صلاح أستاذى فى كلية الشرطة.. ولما أنا مسكت قطاع الإنتاج كنت بقولّه دائما أستاذى وصديقى.. وينتهى الكلام عند هذه اللحظات.. وأنا بقولّه: مش حنّام فيرد علىّ: تصبح على خير. ينام أبى فى السرير الذى بجانبى وطول الليل أسمعه وهو يتكلم وينادى أسماء أتصور أنهم رحلوا عن عالمنا.. فأفزع وأقول له: بابا بابا مالك.. فيستيقظ من نومه مفزوعا.. يقول لى: فيه إيه يا عمرو خضتنى.. قلت له: أنت أصلك كنت بتتكلم وأنت نايم وبتنادى على ناس معينة.. قال لى: بصراحة شفت حلم جميل.. شفت خالى حسن وشفت خالاتى. اندهشت.. فجميع من رآهم كانوا أمواتا.. وبعدها قال لى: لكن الظاهر العملية قربت.. قلت له: عملية إيه.. ضحك وقال لى: ياللا حسن الختام.. أبديت اعتراضى بوجهى.. فعاجلنى بكلماته: تعرف يا عمرو نفسى فى إيه؟ فقلت له: نفسك فى إيه يا بابا؟ رد قائلا: «نفسى أموت كده طاخ فجأة.. علشان يا ابنى.. لا أتعب ولا أتعبكم معايا.. وكان ذلك يوم 17 نوفمبر عام 2013»، ويبدو أن أبواب السماء كانت مفتوحة واستجاب الله له ومات بعدها بأيام وهو نائم على سريره فى القاهرة فلم يتعب ولم يتعب أحدا.. إلا بفراقه.
رحلتى مع صديق العمر أبى ليست شكلا تقليديا من علاقة الأب بابنه، بل إنها مزيج مختلط تجمع فى طياتها كل أشكال العلاقات الإنسانية.. ففى لحظة هو أبى الذى يقول لى فى بداية حياتى: احترس من السجائر لأنها تضر بصحتك، ويحكى لى عن تجربته مع أبطال السجائر فى شهر فبراير عام 1977، وبعد فترة استمرت قرابة 40 سنة يشرب فيها السجائر، يقول لى: «أكبر غلطة فى حياتى إنى كنت بدخن»، وتحول إلى عدو للدخان والسجائر.. وكنت أستمع له هنا بأذن الابن لأبيه الذى ينصحه ويوجهه، وتارة أخرى بروح المعلم.. عندما يقول لى: عمرو، المقال اللى كتبته الأسبوع ده معجبنيش.. عمرو، الحلقة بتاعة إمبارح فى «اختراق» كنت طالع فيها عصبى شوية.. عمرو، إيه الكرافتة السَّكَّة اللى كنت لابسها إمبارح، حابعتلك من عندى كرافتة أحسن.. عمرو، شوف صحتك أنت بدل ما أنت عمال تقول صحتى، شوف مشاكل قلبك.. وكان هنا المعلم الذى كان يتحدث.. يوجه بخبرة وهدوء شديد.. والغريب عندما أعود بذاكرتى إلى الوراء أتذكر أن أبى لم يقم يوماً ما بضربى أنا أو أخى، بل كان يكفى أن ينظر لنا نظرة من عينيه الثاقبتين، أو أن «يقاطعنا»، وذلك كان يوماً أسود فى حياتى عندما يغضب علىَّ بابا.. ولا أجد أمامى سوى العظيمة أمى التى تقول لى: أنا هاحاول أكلمه.. وبعدها بلحظات أكون واقفاً أمامه «بابا.. أنا آسف» وأمسك يده أقبّلها، وبعدها أقوله: خلاص مش زعلان؟!
فيسكت ثم يبتسم بتلطف.. فأستطيع أن أعاود حياتى بشكل طبيعى.. كانت أكبر كارثة ممكن تحيط بى يوم أن أغضبه، أو أتكلم بأسلوب لا يعجبه على المستوى الخاص أو العام.. أما الوجه الآخر فهو وجه الصديق الذى أفضفض له مشاكلى العاطفية فى بداية حياتى فيبادلنى الحوار ويحكى لى عن ذكرياته قبل زواجه من أمى، والحب الأول، وبنت الجيران.. وأنا أحكى له كل شىء، وكنت لا أخبئ عنه شيئاً.. وفى لحظات كثيرة عندما كانت تمر بى ظروف.. ويتآمر علىَّ المتآمرون، أو يقوم أحد الأشخاص بسبّى والإساءة لى دون حق أذهب إليه وأحكى له، فيرد رده المعروف «ارمى من ورا ضهرك، يا ابنى أنا مريت فى حياتى بمؤامرات كتيرة، واتضربت فى ضهرى وعمرى ما اتهزيت.. خليك مقاتل ولا تهتز»، كانت كلماته تنزل على قلبى برداً وسلاماً.. وكانت تحمل لى الطمأنينة.. لذلك فهمت المقولة التى تتحدث عن فقدان الابن لأبيه، وشعوره بأن مصدر الأمان والسند والطمأنينة قد رحل.. وقد شعرت بهذا الشعور وأنا أحمل نعش والدى إلى مثواه الأخير. للرحلة بقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.