فى ظهيرة صيف يوليو، فوجئت بمن يدق الباب، لم أكن أعرف الطارق، الذى بادرنى: أنت فلان الطالب ببكالوريوس الهندسة جامعة القاهرة، فأجبته باندهاش: نعم، فرد بلهجة متعجلة، يا ريت ترتدى ملابسك بسرعة، لأنك ستقابل شخصية مهمة، لم يعطنِ الرجل أى فرصة للتردد أو السؤال فاستجبت على الفور، لأن حديثه كان يحث على الاطمئنان والثقة.. مرت الدقائق التسعة عشر بين بيتنا ومكان الوصول كأنها دهر كامل، حتى اكتشفت -فى لحظة الوصول - أننا فى بيت السيد الرئيس جمال عبد الناصر بمنشية البكرى، وفوجئت فى غرفة الاستقبال بحوالى عشرين طالباً من زملائنا فى كليات الهندسة، استقبلنا الرئيس بفرحة الأب الذى تخرج أبناؤه بتفوق، وكانت السعادة هى القاسم المشترك لهذا اللقاء، بعد أن بدأ الزعيم الحديث بقوله: مبروك يا شباب، أنتم أوائل كليات الهندسة، أنتم من الآن بناة مصر، لقد حرصت على إبلاغكم خبر النجاح والتفوق بنفسى، لكى ألقى عليكم بالمسئولية الكبرى، فمصر تنتظر نتاج عقولكم وجهدكم لنحرق مراحل التطور، ونتبوأ موقعنا الذى نستحقه فى مصاف الدول المتقدمة فى العالم، أريدكم أن تنطلقوا إلى أرجاء العالم لتحصلوا على العلم ولو من فم الأعداء.. عند هذا الحد انقلبت مشاعرنا من الفرحة المزدوجة بالنجاح ولقاء الرئيس إلى إحساس جارف بالمسئولية، جعلنا فى حالة استنفار كالتى تنتاب الجنود قبل ساعة الصفر، أو العدائين قبل صفارة البداية. ثم انطلقنا بعدها نجوب الجامعات والمعاهد العلمية فى أمريكا وأوروبا، ونتفوق على أقراننا من الباحثين والعلماء، نتواصل مع أحدث نظريات التطور العلمى فى الرياضيات الحديثة والميكانيكا والطاقة، كنا فى حالة حرب لا تنتهى، وكسبنا جولات عديدة، وعاد بعضنا ليؤسس النهضة العلمية والبحث فى جامعاتنا. استمعت لتلك الشهادة المحترمة من الدكتور مهندس سمير والى، الذى تفرغ الآن لنشر الثقافة العلمية بالإضافة لدوره الأكاديمى، ما رأيكم فى شهادة أخرى عن عصر آخر ومن رمز علمى كبير، بدأت القصة بسؤال فضولى منى للعالم الكبير الراحل الدكتور أحمد مستجير فى اليوم التالى لحصوله على جائزة مبارك، سألته: لقد شاهدتك فى التليفزيون وأنت تسلِّم على السيد الرئيس وبدا أن هناك حديثاً تم بينك وبين الرئيس، فماذا قال وماذا قلت؟ ضحك الدكتور مستجير، وقال: والله لا شىء لم نتكلم على الإطلاق، فاندهشت: ألم تجلس معه على الإطلاق سواء يوم الجائزة والتكريم أو قبلها أو بعدها، فكانت إجابته لا، ممزوجة بضحكة ذكية، معروفة عنه، والمعروف عن الدكتور مستجير -رحمه الله - أنه كان عالماً كبيراً وفريداً ليس فى تخصصه الدقيق «الهندسة الوراثية» فقط، بل تكمن عبقريته فى تسخير نتائج العلم لخدمة التنمية والفقراء فى مصر، ولا أنسى فرحته حين نجحت تجربة زراعة الأرز فوق مياه بحيرة قارون، أو دعوته لزيارة مزرعة كلية الزراعة لمشاهدة تجارب وراثة النبات، حينما هلل فى التليفون: يا ريت تيجى وتشوف عود الذرة الذى أنتج خمسة كيزان، وكان الدكتور مستجير صاحب إنجازات علمية كبرى لا يستهدف بها إلا وجه الله والوطن والغلابة فى مصر، ومع ذلك لم يستثمر جهده أحد، انتهت القصتان ولم تنتهِ الدروس والدلالات وأهمها أن العلم لا يُكيَّل بالتصريحات.