قرأت بقلبى ودموع عينى عن حكاية أم، أم عانت من الفقر الشديد، والجوع الباطش وقلة الحيلة وعجز اليد، حكاية أم تنقلت بين ربوع مصر من أجل البحث عن رخيص السكن وبقايا فتات الموائد، أم هجرها زوجها وهى تحمل ابنها فى شهر حملها الثالث دون مراعاة لشعور الأبوة، ولا لقدر تحمل المسئولية، هجرها الأب وطافت الأم بوليدها فاتها وحملت هى صغيرها بين حوارى وأزقة وأرياف مصر. لم تجد يد العون من القريب، وما رق لحالها البعيد، وسئمت من البحث عن عمل، عاشت المعاناة المادية والمعيشية والأزمات النفسية، ترك ابنها المدرسة لعجزها عن سداد مصروفاته، والآن عجزت حتى عن توفير بسيط المأكل أو حتى عن جدار لغرفة تحميها وتؤويها، عانت الأم نفسيا، وعاشت الحياة بكل ما تحمل من معانى البؤس والفقر واليأس وكأن الدنيا قد أعطتها ظهرها وكأن الناس قد نبذوها وكأن أصحاب الأيادى قد عدموا من هذه الدنيا، فقررت وأيقنت بداخلها وبذاتها ونفسها ونفسيتها المريضة وهذا ما استنتجته من قراءتى لحكايتها من معايشتى لمعاناتها فقط وأنا أطالع كلماتها التى قالتها فى تحقيق النيابة. قررت أن تفنى حياتها وحياة ربيع عمرها، قررت أن تقتل ابنها نعم لعدم قدرتها على توفير المأكل له، قررت وهمت أن تنفذ لكن ابنها توسل لها، وقال لها يأمى أرجوك اتركينى كى أعيش يأمى بالله عليك لا تقتلينى، لم تسمع صراخه وأنينه وتوسلاته أمام عجزها عن سد حاجته من الطعام والشراب، ووجدته يتعذب وهى تحاول أن تقتله بكتم نفسه، فهان عليها وتركته، ذهبت لوضع الماء على قطعة القماش كى يكون الخنق أسهل، وفقدان التوازن دون توسل أريح. ومات ابن العاشرة ربيعا دون حتى أن يقاوم أمه، فقررت أن تلحق به فشربت السم ولكنها لم تمت واستمر التعب والإعياء من آثار السم لمدة زادت عن الخمس ساعات فلم يجدى معها السم فقامت بقطع يدها على يقين بأنها قطعت شريانها وكأنها مسألة وقت وتموت، واستمر نزيف الدم منها ولم تمت فيئست من الموت فاستدعت النيابة كى تدفن جثمان ابنها الذى أوشك على التحلل، وتقوم بما عجزت هى عنه بنفسها إنه إعدامها. نعم استدعت النيابة وحكت لهم كل الحكاية وهنا صاحت اعدمونى فصوت استغاثة ابنى لا تكاد تفارق عيونى، ودمعته لا يكاد يختفى صداها من قلبى، اعدمونى بل ارحمونى. هذه كانت الحكاية كاملة لم أزد فيها ولم أنقص ولكنى تألمت وعانيت وتصدعت جدران قلبى وأحتج الدمع وغضبت البسمة فى شفاهى وثارت كل جوارحى حزنا وألما بل تعاطفا!! نعم تعاطفت مع هذه الأم الثكلى الموجوعة فى ابنها، نعم أتعاطف مع هذه الأم ومع كل أم تعيش المعاناة، وتعيش الظلم فى بلد تغنى رجالها بإقامة العدل، فى بلدى، فى بلد أغلب من فيها يعزف لمصلحته ولا يراعى الله فى ما خول إليه من مسئولية، هذا يعمل لحساب شركاته الخاصة فى مجال الإسكان، وهذا يعمل لحساب استثماراته فى مجالات الصحة وذاك اقتسم الهواء مع الشعب وآخر حاسبنا حتى على الحلم، آه يا بلدى يأمى يا شعبى يا ناسى يا إحساسى آه يا أمة ضحكت فى عز بكائها، وبكت فى عز فرحها، وتمادت فى سباتها عن قلة طغت وتمادت فى طغيانها، فلا سامح الله كل من ساعد وشارك فيما آلت إليه أحوالنا وحال هذه الأم. فقررت أن أكتب لها هذه الكلمات على لسان ابنها وأقول لها فيها: أمى الحبيبة، كم أحببتك بكل جوارحى، وكم عانيت لمعاناتك، وكم بكيت بقلبى لبكائك، أمى لم أخف الموت فقدت عشته منذ الولادة، ولم أخف العذاب فقد تحملته منذ بدأ الحكاية، أمى فاعلمى أنى لم أرد مقاومتك ولكنها الروح من قاومتك فسامحها الله. أماه سامحينى إن كنت آلمتك بصوت هزيانى وبتوسل أركانى واستغاثات لسانى أماه يعلم الله كم أحببتك وكم تألمت لألمك. أماه كل ما خشيته أن أتركك فى هذه الدنيا بلا شخص يشاطرك الألم ويقاسمك الدموع، أماه لم أر يوما قريبا يحنو على غيرك، ولم أر بعيدا يتألم لتألمى غيرك، ولم أر صديقا يبكى لحالى غيرك، ولما أر فرحة فى حياتى غير من صنعك، أماه أحبك بكل جوارحى وبكل ذرة فى كيانى، جزاك الله الجنة عن كل ما تحملته من ألم، وما عنيته من عذاب وما عشته من أجلى فى شقاء. إمضاء / ابن أمى