وضع فرويد، رائد مدرسة التحليل النفسى (1856- 1939) تقسيمه للنفس البشرية إلى ثلاثة أقسام: ال"أنا"و ال"هو" و"الأنا العليا".. وجعل الأنا العليا هى المتحكم الأول فى رغبات الإنسان وغرائزه الأدنى.. فهى التى تهذب رغبات الإنسان الطبيعية كالجنس والجوع والعطش.. ورغباته الاجتماعية مثل حب التملك وحب الظهور.. ولو كان فرويد يعيش فى أيامنا هذه لأضاف إلى قائمة مهام الأنا العليا قضية السلوك الإنسانى فى عالم مواقع التواصل الاجتماعى. لقد وصل الأمر فى قضية مواقع التواصل الاجتماعى إلى حد يتعدى الإدمان المتفق عليه بين العلماء، إلى حد التنازل التام عن العقل والسير فى القطيع إلى آخر الشوط.. فالمهم فى النهاية هو الحصول على رضا القطيع وإعجابه وليصبح الإعجاب هو مكافأة الفرد من جانب القطيع التى يحصل عليها بقدر رضا القطيع عنه.. والبديل هو عقاب الفرد إن لم يمنح القطيع كل الأدلة الواضحة والعلنية على تسليمه عقله لمن إختاره القطيع قائدا لهم منذ اللحظة الأولى.. وفى سبيل ذلك يصبح التهكم "الألش" هو الأداة الأولى فى وسائل التواصل الإجتماعى.. ليتحول أى حديث جاد إلى "نكتة" تهدم أى محاولة لمناقشة واضحة المعالم تؤدى إلى نتيجة.. وليتحول كل نقاش منذ بدايدته إلى معركة ينقسم فيها الجميع إلى قسمين : مع وضد .. ولا يوجد طريق ثالث لمن اراد ان يتم إستخدام نعمة العقل .. كذلك تتحول مواقع التواصل الإجتماعى منذ اللحظة الأولى لأى طرح إلى طريقين لا ثالث لهما: إما التأليه المبالغ فيه لشخصية ما .. وإما الشيطنة المطلقة الجالبة للعقاب الجماعى.. ويتم بناء مسلك محدد قاطع وجذرى منذ البداية للتخلص من تلك الشخصية وكأنها سبب كوارث البشرية الماضية والمستقبلية، او للتمسك بها وكأنها الأمل الوحيد لبقاء الجنس البشرى.. ولنجد انفسنا امام "حيطة سد": فلا نقاش ولا تفاوض ولا تفنيد وإنما المطلوب هو حشد الآراء فى أحد إتجاهين لتمييز الأخيار عن الاشرار ولا صنف ثالث بينهما ، وعليك أن تحمل عارك إلى الظل وتصمت إن إتفق القطيع على إنك من الأشرار . إن مواقع التواصل الإجتماعى تزداد ديكتاتورية فى كل لحظة عن الأخرى.. ليتحول الأمر إلى نمط سلوكى قادر على الهدم فى لحظات. أو على وقف سير العجلة إلى الأمام وللأبد.. فضلا عن ذلك السلوك الهستيرى الذى تصدره إن اتفق القطيع على تصدير حالة الأمل التى تصل إلى حد "اليوفوريا السلوكية" أو تصدير حالة الإحباط التى تصل إلى حد فقد كل قيمة للحياة.. إن وسائل التواصل الاجتماعى تحتاج إلى ضبط سلوكى.. وهنا لا أتحدث عن رقابة أو منع أو ملاحقات قانونية إلا بالقدر الذى يصبح فيه الخطر آنيا وداهما.. إنما أتكلم باللأساس عن متابعة هادفة إلى دراسة نفسية وسلوكية تعلن نتائجها للجميع.. ويتم التعامل مع وسائل علاجها بشكل علمى تسانده الدولة ويسانده مجتمع المثقفين الغير مسيسيين الذين ابتدعوا طرقا للحشد من خلال التواصل الاجتماعى... ولنا فى الانتخابات الأخيرة أسوة حسنة:.. فلا أمل لنا فى أى تقدم إن لم نضبط أول محاور الفوضى التى استولت على السلوك الحياتى للإنسان المعاصر من خلال وسائل التواصل الاجتماعى.. فكل فوضى حالية أصبحت تنبع من هناك.. ولا أمل فى التخلص من الفوضى إلا بضبط السلوك الإنسانى الذى مازال يتعامل مع السوشيال ميديا ببدائية حضارية وكأنه مازال يعيش فى عصوره الحجرية للتكنولوجيا.